د. عبدالحق عزوزي
لا حديث اليوم في وسائل الإعلام الدولية إلا ما يجري في فرنسا من اضطرابات إثر مقتل الفتى نائل برصاص شرطي بضواحي باريس قبل عدة أيام... ففي بريطانيا، ركزت وسائل الإعلام على توجيهات وزارة الخارجية البريطانية لعدم السفر إلى باريس، في حين أن الأمريكيين تناولوا الربط بما حدث مع جورج فلويد الذي أحدث قتله على يد أحد عناصر الشرطة موجة مظاهرات عارمة في الولايات المتحدة؛ أما في روسيا، فيتم الحديث عن «حرب أهلية» وتُوجه انتقادات للرئيس إيمانويل ماكرون,,..
ومن رأى بعينيه ما يجري في بعض المدن الفرنسية من اضطرابات سيظن نفسه في ساحات تمثيل أفلام حروب هوليودية تصور في نفس الوقت... إذ تسببت أعمال العنف، التي أُضرمت خلالها النيران في بعض المباني الرسمية والسيارات والحافلات بالإضافة إلى نهب بعض المحال، في استعمال كل وسائل الفر والكر المتوفرة لدة الشرطة الفرنسية...
والذي يثير انتباه المتتبعين لما يجري في فرنسا هو مشاركة فتية «صغار جداً»... وبعض هؤلاء الموقوفين بدأوا بالمثول أمام محاكم المنطقة الباريسية؛ وقد تبيّن أنّ بعضهم تلامذة في المرحلة الثانوية، وآخرين تلامذة في معاهد مهنية، بينما يعمل بعضهم الآخر ندلاء في مطاعم وحانات، ولم يبلغوا سنّ الـ18 عاماً، وغالبيتهم ليس لديه أيّ سجل إجرامي...
وتتناقل وسائل التواصل الاجتماعي مشاهد لما يقوم به هؤلاء الشبان الذين قال عنهم الرئيس ماكرون إن «بعضهم يطبّقون في الشارع ما يعيشونه في ألعاب الفيديو التي سمّمتهم».
ووجّه الرئيس الفرنسي أصابع الاتّهام بالخصوص إلى منصّتي سنابتشات وتيك توك حيث يتمّ تنظيم «تجمّعات عنيفة»، معتبراً أنّ هاتين المنصّتين «تثيران أيضاً شكلاً من أشكال محاكاة العنف، مما يؤدّي في صفوف الأصغر سناً إلى شكل من أشكال الخروج من الواقع».
والصحيح أن أعمال العنف التي شهدتها فرنسا هذا الأسبوع يجب النظر إليها من منظور الانتفاضة وليس أعمال الشغب؛ وأنا أتفق مع بعض المحللين السوسيولوجيين عندما يرون أن مصطلح «أعمال شغب» يقلّص هذا العنف إلى جنوح حضري بسيط في حين أنه ينطوي على بعد سياسي لا يمكن إنكاره» في سياق الفروقات الاجتماعية المتزايدة في البلاد... فهناك قصور في سياسة تحديث الأحياء الشعبية؛ وقد أنفقت فرنسا بين العامين 2004 و2020 مبلغ 12 مليار يورو على برنامج «سياسة المدينة» الهادف إلى تحديث الأحياء الشعبية وتحسين أوضاع سكانها، كما خصصت 12 مليار يورو إضافي لبرنامج ثانٍ ينفذ حتى العام 2030... ولكن تظهر الاحتجاجات فشل السياسات الحكومية في مجال سياسة المدينة وفي معالجة انعدام المساواة وتزكي ما كتبناه في صحيفة جريدة الاتحاد، وأعني انعدام الثقة داخل المجال السياسي العام في فرنسا، وهو انعدام يطال الجميع في فرنسا وينذر بويلات على اللحمة الاجتماعية والمستقبل الاقتصادي والسياسي في البلد.
وتأتي هاته الاحتجاجات في وقت تعرف فيه فرنسا وأوروبا تضخماً غير مسبوق وغلاءً في المعيشة... وما كان وقع في فرنسا وما يقع اليوم من غلاء المعيشة في العديد من دول العالم بسبب تداعيات الحرب في أوكرانيا، يذكرني بأحد أبحاث الاقتصادي الكبير جون لويس ريفرز (Jean Louis Reiffers) والذي له برامج تنموية متعددة استعانت بها أعظم المؤسسات البنكية العالمية والاتحاد الأوربي، حيث يقول في إحدى مقالاته التي كنت قد نشرتها له في إحدى الكتب الجماعية، إن الحراك الاجتماعي يبلغ أشده عندما يرتفع ثمن بعض المواد الحيوية للمواطنين؛ ولهذا السبب تجنح العديد من الدول إلى ما يمكن أن يسمى بنظام المقاصة مع درجة مرتفعة في الدول العربية، لأن السلم الاجتماعي غالباً ما يكون منوطاً بدعم الدولة للمواد الأولية... هذا النظام يهدف إلى تأمين التزود بالسلع وضمان مستوى الأسعار في السوق الداخلية، وذلك بتجنب نقص أو زيادة التموين، ودعم الصناعات الفلاحية، الخ. بعبارة أخرى يعني استقرار الأسعار تثبيت السلم الاجتماعي، لأنه لا يمكن تصور السلم الاجتماعي دون تدخل الدولة في ترشيد أسعار ورواج المنتوجات المختلفة، ونحن نتذكر ما وقع في الولايات المتحدة الأمريكية في ظل الأزمة الاقتصادية لسنة 2008 حيث اضطرت الدولة إلى تبني سياسات تدخلية وحمائية خوفاً على تسريح ملايين العمال من الشركات والزيادة في الأسعار...