أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: يرى يحيى بن معاذ: أن المؤمن في دنياه أسعد بطاعة الله من نعيم الله في الآخرة، قال سامحه الله تعالى: (والله إنهم اليوم في قراطق الخدمة أحسن منهم غداً في غلائل النعمة).. وقد أيده أبو الوفاء بن عقيل؛ فقال: ((وأنا أقول: الخدم أوجبت لهم مدحة الحق، والنعم أوجبت منة الحق، وبين المدحة والمنة بون: قال: فيهم على سبيل المدحة {رِجَالٌ صَدَقُوا}، {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ}، رجال {يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ}، {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا}، {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ}؛ هذا أنبل وأجل في مسامع العقلاء المميزين من أوصافهم باستيفاء اللذات.. {وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ }، {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ}، {وَحُورٌ عِينٌ}، {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ}، {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ}، {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ}؛ لأن هذه أوصاف نعمه عليهم، وتلك أوصاف خدمتهم له، وأحسن حالتي العبيد حال الخدم وزي التبتل، لا الاستناد والتعطل؛ لكن تجملت الجنة على الدنيا بعلم اليقين)).. انظر كتاب (الفنون) لأبي الوفاء بن عقيل الحنبلي 2/ 518.
قال أبو عبد الرحمن: كلام ابن عقيل الحنبلي ويحيى بن معاذ المتصوف خارج عن كلام علماء المسلمين كله حمق ورعونة وافتيات على الله سبحانه وتعالى لا يدل عليه شرع ولا نظر؛ وإنما هو نسك الرياء، وبطلان هذه البلاغم من وجوه: أولها أن تسمية العباد بخدام الله تسمية مبتدعة وقولهم: (خادم الله مخدوم) من كلام العوام.. وثانيهما لو فرضنا أن هؤلاء الصوفية يعبدون الله كعبادة الأنبياء إخلاصاً وصواباً، وأنهم جربوا لذة العبادة وسعدوا بها لما جاز لهم أن يفضلوا لذة العبادة على لذة الثواب يوم القيامة؛ لأنهم فضلوا ما جربوا على ما لم يجربوا؛ ولأنهم حكموا للحاضر على الناظر؛ وهذا تخرص وتكهن لا يجوز وقد نهانا الله سبحانه وتعالى: أن نقفو ما ليس لنا به علم، ومثل هذا الحكم لا يجوز إلا بتوقيف من كلام الله أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكم حرص الصوفية على إفساد الدين بالترهات والتلاعب بالقرآن، ولقد حذرنا منهم أبو العلاء المعري (وهو شر منهم) بقوله:
وكم من فقيه خابط في ضلالة
وحجته فيها الكتاب المنزل
.. وثالثها أن ذوي الشموخ والأنفة والإباء في حياتنا الدنيا يفضلون مدحة الخلق على منة الخلق ويقولون: الثناء العاطر في مجلس عابر أفضل من المنة بالمال؛ لأن المال فان والذكر باق.. قال أبو عبد الرحمن: فهل نطبق هذه الظاهرة على مدحة الله ومنته، ونقول: نحن أسعد بمدحة الله العظيم من منته.. اللهم فاشهد أننا نبرأ إليك من هذا الحمق، قبح الله مذهباً يجر إلى هذه الرعونة.. ورابعها أن هؤلاء الصوفية المغفلين ينسون أو يتناسون: أن العابد إذا اهتدى فإنما يهتدي بمنة الله سبحانه وتعالى، وإذا سعد بالعبادة فإنما يسعد بمنة الله؛ فإن سعد بمدحة الله فإنما يسعد بمنته، وإن أدخله الله الجنة فإنما يدخلها بمنة الله فهم في منة الله من فرعهم إلى قدمهم.. وخامسها أن في تفضيلهم لذة العبادة على لذة الثواب رياء مبطناً وكفراً مستتراً؛ ووجه ذلك: أنهم شمخوا بعبادتهم وهوموا في الالتذاذ بها وهونوا من نعيم رب العالمين ليقولوا: عبادتنا عمل جبار فإذا مدحتنا يا رب على عبادتنا فذلك أجل خطراً عندنا من جنتك التي تعدنا بها؛ لأن العظماء في الدنيا ونحن منهم يسعدون بالثناء ولا ينتظرون العطاء.
قال أبو عبد الرحمن: أف. أف. أف، من هذا النتن، والله يا عباد الله لو أن أحدنا من أهل بيعة الرضوان ثم سمع ثناء الله على أهل البيعة تعمر به المحاريب: لكانت سعادته بثناء الله بالمقدار الذي ينتظر به ثواب الله في الآخرة، وأعلى درجات النعيم لذة النظر إلى وجه الله الكريم، وقد أمرنا رسول الله في الدعاء بطلب هذه اللذة.. وسادسها أن الله لم يكتف بمدح المؤمنين، ولم يقل لهم: مدحي لكم هو نهاية ثوابكم، ولم يقل لهم: إن كل نعيم تنالونه في الجنة فهو أقل من مدحي لكم؛ وإنما جعل ربنا الجنة لهم نتيجة مدحه لهم، ومدح الله لهم إحسان منه وليس واجباً عليه.. وسابعها وهو فارق دقيق: أن مدح الله لهم أشرف لهم؛ لأنه مدح من الخالق العظيم للمخلوق الضعيف، ولكنهم أسعد بالنعيم؛ لأن الله سبحانه وتعالى جبل البشر على السعادة بمنة الله، والدليل على الفرق بين السعادة والشرف: أن بعض معالي الأمور ثقيلة على النفوس رغم شرفها لا تخضع لها إلا برياضة، وبعض الشهوات الدنيئة تأنس بها النفس، ووجه الشاهد أن السعادة غير الشرف وكفى.. وثامنها أن مدح الله للمؤمنين غير مجرد من المنة؛ فمدح الله للمؤمنين يوم القيامة من كمال النعيم، وما مدح الله كافراً يعذب حتى يقال: إن مدح الله يهون عليه العذاب.. وتاسعها أن الاستهانة بمنة الخالق يوم القيامة قياساً على منة المخلوقين في الدنيا أشنع من قياس إبليس الذي فرق بين النار والطين، وأشنع من قياس الكفار الذين سووا بين البيع والربا، وكذلك حكم ابن عقيل الحنبلي على استيفاء اللذات في الآخرة ولا سند له إلا القياس على دناءة استيفاء اللذات في الدنيا.. وعاشرها أن وصف ابن عقيل الحنبلي للذة الآخرة ونعيمها بالاستناد والتعطل: كلام شنيع تقشعر منه الجلود، وأشنع ما فيه: أن الله يشوقنا للنعيم، ثم يقول أبو الوفاء سامحه الله تعالى هذا استناد وتعطل، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
وكتبه لكم/ أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
- (محمد بن عمر بن عبدالرحمن بن عبدالله العقيل)
- عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -