رضا إبراهيم
نكمل حديثنا الثاني حول موضوع الإشاعات ومدى خطورتها، فمع تطور المجتمعات بمرور الأزمنة، تطورت معها عملية نشر الإشاعات واستخدامها لتحقيق أهداف الحرب النفسية، ولأن الإشاعات تعتبر من أهم أساليب الحرب النفسية، فهي تستخدم بكفاءة أثناء المواجهات العسكرية لما لها من تأثير قوي على الجماهير.
لذلك أنشأت وزارات الدفاع بمعظم دول العالم إدارات للحرب النفسية، وهي إدارات تضم أكفأ الخبراء في إثارة الإشاعات، وهؤلاء الخبراء يتولون تحديد مواعيد الترويج لها واستخدامها لتدمير معنويات العدو المستهدف، وتفكيك مجتمعاته وشعوبه وإشعال الحروب الأهلية به، كما عملت أقسام الحرب النفسية على تطوير مواصفات المحتوى المؤثر وكيفية استخدامه، للتلاعب بانفعالات ومشاعر الجمهور المستهدف.
وعملت أيضاً على استغلال التطورات التي يشهدها العالم، وبالأخص في مجال تكنولوجيا الاتصال بهدف نشر الإشاعات، والتأثير على معنويات الشعوب وإلحاق الهزيمة بهم نفسياً، وبذلك تطورت عملية خلق الإشاعات واستخدامها لتحقيق أهداف الحرب النفسية، والإشاعات تعتبر أيضاً من أهم الأسلحة التي تستخدم لهزيمة العدو نفسياً والتأثير على الشعوب، حتى تفقد قدرتها على الصمود والمقاومة، واستخدام الإشاعات في الحرب النفسية يؤدي إلى تضليل الناس وتزييف وعيهم، ففي كثير من الحالات لا تستطيع الشعوب، أو يصعب عليها التمييز بين الإشاعات والأخبار، نتيجة لخلط الحقائق بالأكاذيب، ونقل أنصاف الحقائق واستخدام المعلومات التي تشجع على العنصرية والكراهية العرقية والدينية.
ما دعا خبراء الحرب النفسية إلى تطوير عملية إثارة الإشاعات، وتحديد أنماط الإشاعة الناجحة، بأن يكون من السهل على الجمهور المستهدف تذكرها سريعاً، لأن هذا الجمهور يمكنه الترويج لها عبر الاتصال الشخصي، وأن تكون الإشاعة بسيطة وغير معقدة وتتضمن معلومات محددة، وضرورة أن تتوافق الإشاعة مع مصالح الجمهور وتلبية احتياجاته، والأخذ بعين الاعتبار الظروف التي يمر بها الجمهور، واستغلال مشاعر وانفعالات الجمهور والعمل على تنميتها.
وضرورة أن تتناسب الإشاعة مع سوابق تاريخية، وتلبية توقعات الجمهور، ومن الأفضل أن تنسب الإشاعة إلى مصدر موثوق، مع تجنب المبالغة عند صياغة الإشاعة، كما شددت إدارات الحرب النفسية على أهمية استغلال الإعلام في نشر الإشاعات، ضمن رسائل تحتوي على جزء من الحقيقة، للتأكيد على أن الإعلام يهتم بها بأن تكون ذات مصداقية، ولقد وفرت شبكة الإنترنت مجالا رحباً وخصباً لنشر الإشاعات بهدف التأثير على معنويات العدو، وجعل جمهوره المستهدف يشعر بأنه غير قادر على تحقيق النصر في الحرب أو في الصراع القائم، أو تحقيق الإنجازات في مجال الاقتصاد أو السياسة أو العلم.
كذلك أعطى الإنترنت لخبراء الحرب النفسية، الكثير من الإمكانات لتطوير عملية صنع ونشر الإشاعات واستخدامها في حرب مستمرة ضد الشعوب، ومن السهل ملاحظة أن غالبية الإشاعات التي تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي كـ (السوشيال ميديا) تخلو دوماً من المعلومات الكاملة حول الموضوع المنشور، وهي بذلك تتعمد عرض جزء صغير من المعلومة، ومن ثم تترك باقي الموضوع للأفراد الذين يقومون بتكملة بقية القصة أو الرواية، كلٌّ بما يتناسب مع أسلوبه ومع خلفيته وثقافته.
وفي محاولة لتضليل الرأي العام، بات استخدام الدعاية الرمادية في العديد من القضايا منهجاً أساسياً، نظراً لاستناد الدعاية الرمادية على بعض الحقائق ولو بنسبة ضئيلة، تصل أحياناً إلى (10) بالمائة فقط، وسرعان ما تنسج حولها أكاذيب كبيرة بحرص شديد وترتيب منطقي، ما يجعل من الصعب جداً على غير المدقق اكتشاف تضليلها ومعرفة أسلوب خداعها.
وطالما استغل خبراء للحرب النفسية، الخبرات المتراكمة منذ الحرب العالمية الثانية في إطلاق الإشاعات ونشرها، وضمن طوفان من المعلومات قد تفشل أجهزة الدول المعادية في تحليلها وتقييمها، والتمييز بين المعلومات الصحيحة والكاذبة، ما يؤدي إلى ارتباك وتوتر بين الشعوب وحكوماتها، ويزيد من شعورهم بالعجز وانهيار مخططاتهم.
وكان للعلوم دورٌ كبيرٌ في فتح مجالات جديدة، لتطوير إستراتيجيات نشر الإشاعات والحرب النفسية، أهمها «علم النفس والسياسة وعلم الاجتماع وعلم الأنثروبولوجيا واللغة»، وكانت الإشاعات من أهم الوسائل التي ساهمت هذه العلوم في تطويرها واستخدامها لتحقيق أهداف استراتيجيات الحرب النفسية، وهناك حالات كثيرة أظهرت أن الإشاعات استُخدمت لزيادة استياء الناس وغضبهم من أنظمة معادية للغرب أو رفض التبعية له، وتصوير هذه الأنظمة على أنها ليس لديها أي كفاءة تذكر في مواجهة التحديات، أو أنها تفشل دوماً في إيجاد حلول لمشاكل الجمهور.
ففي إفريقيا وأمريكا اللاتينية على سبيل المثال، استخدمت الإشاعات للإطاحة بكثير من الأنظمة الحاكمة، ولإشعار شعوب هذه الدول بالعجز والإحباط، وعدم تمكنهم من اختيار حكامهم وبناء أنظمتهم الديمقراطية، وكل ذلك يعني أن عملية خلق الإشاعات ونشرها هي جزء من حرب نفسية طويلة الأمد، لا تقتصر على الحرب الفعلية التي يُستخدم فيها الجنود أو الأسلحة.
ومع تطور العمليات النفسية، الهادفة للتأثير في مواقف الناس ومعنوياتهم، تم ربط الإشاعات بحملات من الجهل التضليل، ما أدى إلى زيادة قدرات التحكم لدى الناس، وانخفاض قدرتهم على التمييز بين المعلومات الحقيقية والمصنعة، فغالباً ما تُعزى المعلومات الخاطئة إلى مصادر موثوقة، ومن الصعب تحديد تلك المصادر للمعلومات الصحيحة، التي تنتشر بسرعة كبيرة جداً، عبر الاتصال الشخصي ووسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت.
وعلى العكس تماماً من أسلوب الدعاية البيضاء، التي تخاطب العقول وتعرض الحقائق بشفافية، وتكشف عن مصدرها وعن اتجاهها وأهدافها، عملت «الدعاية السوداء» على مخاطبة الغرائز والانفعالات، وعلى حشد الأكاذيب والأوهام، دون الكشف عن مصدرها، كما تعمل الدعاية الرمادية على دمج النوعين، إذ تجمع بين كلٍّ من العقل والانفعالات، وهي تعرب عن مصادر ولكنها لا تكشفها، وعندما تكشف مصادرها تبقى اتجاهاتهم ونواياها مضللة، والهدف من كل ذلك يكمن في إقناع الرأي العام، بفكرة محددة ومطلقة وغير مشروطة لتخدم مصالح معينة، وقد تتضمن تشويه الصورة الحقيقية وتضخم لأقصى حد الأمور الواقعية.
ولا شك في أن الإشاعات يمكنها تحويل الحروب المتوقعة إلى حروب حقيقية، لأن الحرب تبدأ بكلام وشائعة يمكن أن تنتشر بسرعة، وتسبب الخوف والرعب بين الجماهير، لذلك اعتبرت الإشاعات سلاحاً خطيراً جداً، يحمل الكثير من الأضرار، ويمكن إطلاق إشاعة في وقت معين، لتؤدي إلى اندلاع حرب حقيقية قد تتحول إلى حرب عالمية، ويمكن أن تؤدي إلى أحداث غير متوقعة كاستخدام القنابل النووية.
علماً بأن تراكم الخبرات في مجال استخدام الإشاعات في الحرب النفسية، سيكون له العديد من الآثار السلبية على مستقبل العالم، فهناك دول تمتلك أسلحة دمار شامل مكدسة لديها، يمكن استخدامها عندما تشعر أنها معرضة للإبادة والتدمير، والإشاعات يمكن أن تدفع تلك الدول إلى استخدام هذه الأسلحة، قبل أن تفكر في التأكد من صحة المعلومات المتداولة، وقد تكون بعض الإشاعات أخطر من القنابل النووية نفسها، وقد تؤدي إلى إطلاق تلك القنابل أو الصواريخ.
وعن الإسلام فقد حث الأفراد على عدم ترديد الإشاعات، لأن ذلك يُعد من أنواع الكذب، وتأكيداً على ذلك أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله (إن كثرة الكذب من علامات يوم القيامة)، وقد أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن، ويكثر الكذب) وأخرج مسلم أيضاً من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إن بين يدي الساعة كذابون فاحذروهم)، وروى الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (سيكون في آخر أمتي أناسٌ يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم)، وبذلك نرى أن الإسلام عمل على تجفيف منابع الإشاعات، بأن كلف المسلمين بالتثبت من أية أخبار قبل بناء الأحكام عليها.
لذلك أمر الإسلام ذلك الدين القيم، برد الأمور إلى أهلها والعلم قبل إذاعتها والتحدث بها، ويقول رب السموات والأرض وما بينهما في كتابه العزيز {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات 6)، وذم سبحانه وتعالى الذين ينصتوا للمرجفين ومروجي الإشاعات والفتن بقوله تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (التوبة 47)، كما توعد الله فاعل ذلك بأشد العقاب في الدنيا قبل الآخرة بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النور 10).