د. تنيضب الفايدي
ورد في الحديث المتفق عليه والذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَقَدْ كَان فِيما قَبْلَكُمْ مِنَ الأُممِ نَاسٌ محدَّثونَ، فَإنْ يَكُ في أُمَّتي أَحَدٌ، فإنَّهُ عُمَرُ». قال ابن وهب: محدَّثون أي: مُلهمُون. والإلهام كما عرفه ابن منظور أن يلقي الله في النفس أمراً يبعثه على الفعل أو الترك.
وعن عبدالله بن عمر -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أُرِيتُ في المَنامِ أنِّي أنْزِعُ بدَلْوِ بَكْرَةٍ علَى قَلِيبٍ، فَجاءَ أبو بَكْرٍ فَنَزَعَ ذَنُوبًا، أوْ ذَنُوبَيْنِ نَزْعًا ضَعِيفًا، واللَّهُ يَغْفِرُ له، ثُمَّ جاءَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ فاسْتَحالَتْ غَرْبًا، فَلَمْ أرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرِيَّهُ حتَّى رَوِيَ النَّاسُ، وضَرَبُوا بعَطَنٍ». متفق عليه. فالحديثان يحددان الملهم والعبقريّ وهو عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وقد بدأت بالحديث؛ لأن أحد الأصدقاء قال: الملهم صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إن كلمة الملهم لها وجهان: (الخير والشر) فإذا أريد بها الخير فالمقصود به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وسألني وهل لها معنى غير الخير، فقلت: نعم ألم تقرأ قوله تعالى (فألهمها فجورها وتقواها)؟ أي: بيّن لها طريق الشرّ وطريق الخير، قال ابن عباس: بيّن لها الخير والشر، فالإلهام في الآية لا يعني الخير فقط وإنما يعني الخير والشرّ. والملهم بكسر الهاء أو فتحها تؤدي إلى نفس المعنى، سواء اسم فاعل او اسم مفعول، أي: تشمل المعنيين.
وقال لي ألم تقرأ كتاب «ملهم العالم» فقلت له: لم أقرأه ولم أطلع عليه حتى الآن، علماً بأن لديّ نسخة إلكترونية، لكن صرفني عنه العنوان، قال: إنه يتعلق بالسيرة سيرة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فأجبت بأن هذا العنوان لا يناسب مقام نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أبداً، فنحن -المسلمين- نؤمن بالرسول -صلى الله عليه وسلم- وأنه قد أوحي إليه من الله سبحانه وتعالى، ونؤمن بالوحي وبأشكاله وأنواعه، فالوَحي من الله عز وَجل ثَنَاؤُهُ: نبأ وإلهام، وَمن النَّاس إِشَارَة، قَالَ الله جلّ وعلا: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}. ويتناول الوحي بهذا المعنى اللغوي ما يلي:
1 - الإلهام الفطري للإنسان كالوحي إلى أم موسى {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ}.
2 - الإلهام الغريزي للحيوان كالوحي إلى النحل {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}.
3 - الإشارة السريعة على سبيل الرمز كإيحاء زكريا عليه السلام {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}.
4 - وسوسة الشيطان وتزيينه الشر في نفوس الناس {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ}.
5 - ما يلقيه الله إلى ملائكته من أمر {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ}.
6 - كما يطلق على إعلام الشيء في الخفاء كما حكى الله تعالى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}.
7 - وحي الله إلى أنبيائه: هو ما يلقيه إليهم من العلم الضروري الذي يخفيه عن غيرهم.
أما الوحي في الشرع فهو «أن يعلم الله تعالى من اصطفاه من عباده كلّ ما أراد اطلاعه عليه من ألوان الهداية والعلم، ولكن بطريقة سرية خفية غير معتادة للبشر».
أقسام الوحي:
للوحي أنواع، وقد تحدث العلماء عنها:
1 - الرؤيا الصالحة:
كما جاء في حديث عائشة -رضي الله عنها- السابق، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وقال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}.
2 - الإلهام:
وهو أن ينفث الملك في قلبه من غير أن يراه، قال -صلى الله عليه وسلم-: (فإن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته).
3 - أن يأتيه مثل صلصلة الجرس:
ففي حديث عائشة -رضي الله عنها-: أن الحارث -رضي الله عنه- سأل رسول الله -صلى الله عليه سلم-: كيف يأتيك الوحي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني، وقد وعيْتُ ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني، فأعي ما أقول» رواه البخاري.
4 - وحي بلا واسطة:
ما أوحاه الله تعالى إليه بلا وساطة ملك، كما كلم الله موسى بن عمران -عليه السلام- وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعاً بنص القرآن، وثبوتها لنبينا -صلى الله عليه وسلم- في حديث الإسراء.
5 - في شكل رجل:
أنه صلى الله عليه وسلم يتمثل له الملك رجلاً، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحياناً.
أما ما ورد فيما يخص الحشرات والطيور مثل النمل والنحل والهدهد التي تأتي بعجائب الأنظمة والأعمال مثل: خلية النحل والعسل، فإن ذلك لا يكون صادراً عن تفكير لها وإنما هو إلهام من الله تعالى، ويطلق عليه العلماء غير المؤمنين بالله اسم (الغريزة الطبيعية) أي: من الطبيعة، ويحتاج (قانون الطبيعة) إلى تفصيل لا يناسب المقام الحالي، بينما نحن -المسلمين- نؤمن بأنها إلهام من الله لتلك الكائنات الحية، أي: صادرة عن إرادة عليا من الله سبحانه وتعالى.
وأضاف لي ذلك الصديق بأن كتاب (ملهم العالم) ضمن الكتب المنتشرة وأنت تتابع السيرة ولم تطلع عليه، فقلت له: بأنني لم أطلع عليه نهائياً. والملحوظة على عنوان الكتاب، ولم يذكر اسم المؤلف لأنه معروف، فهو أديب متمكن، وخطيب مؤثر، ومؤلف متعدد المؤلفات، ومحب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويظهر ذلك لمن قرأ كتبه المتعلقة بالسيرة النبوية، وأقول بأنه محب لمعرفتي بجوانب من حياة وسيرة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومتابعة أحداثها، وتتبع أماكن حدوثها لأكثر من خمسين عاماً مباركاً، فقد عايشت حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسجلت مئات البرامج المتعلقة بها (تلفزيونياً) وإذاعياً، وقبل عشرين عاماً طلبت مني وزارة الثقافة والإعلام أن أكتب السيرة تلفزيونياً وكتبتها، وقدمت في وقتها تحت عنوان (إطلالة على السيرة) في (24) حلقة، كما صدرت عدة كتب تتعلق بغزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- مثل: غزوة بدر، وغزوة خيبر، وغزوة العشيرة... إلخ، وكل غزوة تم رصد المسار النبوي لموقع تلك الغزوة بالصور، وصدر كتاب يجمع بعضها (تسهيل الوصول إلى غزوات وسرايا الرسول صلى الله عليه وسلم)، وأخيراً صدر كتاب السيرة التربوية الموثقة في 1200 صفحة (604) مرجعاً.
أما كتاب «ملهم العالم» والذي وجهت على عنوانه الملاحظة فإنه يبقى كما هو -إن لم يكن في محتواه بعض المفاهيم غير المناسبة- مع تغيير في العنوان فقط باسم «رسول العالم» أو «منقذ العالم» لأن كلمة الملهم تتطابق مع كلمة العبقري (Genius) ومستوى الكلمة أعلى من الذكاء (Intelligence) وهي جزء منه مع كلمة (Commonsense) أي: الفطنة، وكلمات الملهم والعبقري والفطنة والذكاء كلها من وظائف الدماغ، ولا توجد قوى خارجية تتدخل بها مثل الوحي، وذلك يعني أن الملهم وظيفة من وظائف الدماغ لا علاقة لها بالوحي، ولا يتأثر العقل إلا التنويم المغناطيسي وما يراه في المنام (الأحلام)، وهذا ما يؤمنون به ويسعى له علماء الغرب، فأشهر علماء الغرب ولاسيما من لهم أثر وتأثير في التاريخ، وتوجيه الأمة، وكلهم يثنون على محمد -صلى الله عليه وسلم- ويصفونه بالعظمة والعبقرية والإلهام، لكنهم لا يؤمنون برسالته ولا يؤمنون بأنه نبي يوحى إليه من الله تعالى، وصدرت عدة كتب من فترات متفاوتة تتعلق بهذا الأمر مثل:
1 - المائة: ترتيب أكثر الشخصيات تأثيرًا في التاريخ، لـ: مايكل هارت (The 100: A Ranking of the Most Influential Persons in History) والأول على هذه الأسماء المائة هو محمد.
2 - كتاب «محمد في مكة» لمؤلفه: مونتجمري وات.
3 - كتاب «حضارة العرب» لمؤلفه: جوستاف لوبون.
4 - كتاب «حياة محمد» لمؤلفه: إميل درمنغم.
5 - كتاب «الأبطال» لمؤلفه: توماس كارليل.
6 - كتاب «تاريخ الشعوب الإسلامية» لمؤلفه كارل بروكلمان.
7 - كتاب «محمد وانتشار الإسلام» لمؤلفه مرجوليوث.
وكما يتضح أن هؤلاء من أكثر علماء الغرب شهرة أثنوا على محمد -صلى الله عليه وسلم- ووصفوه كما قلت سابقاً بالملهم والعبقري والعظيم وأنه بطل الأبطال، وكلّ كلمة تدل على العظمة إلا أنهم لا يؤمنون برسالته -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنهم لا يؤمنون بالوحي، ومن الخطأ الفادح أن يصدر مثل هذا العنوان من أحد المسلمين، والسؤال الأخير: هل الإلهام يتعلق فيما يخص نبينا -صلى الله عليه وسلم- ينطبق عليه الجانبان التي ذكرتها لك أو يتعلق به جانب واحد؟ (والسؤال للصديق المناقش)، وأعلم تماماً بأن المؤلف قصد جانب الخير فقط، وكذا جميع المسلمين، لكن لا بد من معرفة هذه المزالق التي يتمناها علماء الغرب؛ لأنهم يقدّرون محمداً في نفسه، وفي عبقريته، وإلهامه، دون الإيمان به ولا بالوحي ولا برسالته -صلى الله عليه وسلم-.