أثناء إقامتي في الولايات المتحدة وبالتحديد في العاصمة واشنطن، وأثناء زيارتي للابنة الغالية شهد عبدالعزيز المبتعثة من المعهد الدبلوماسي أحد المعاهد الرائدة في الدبلوماسية في العالم العربي، والتي تواصل دراستها العليا في كلية الدراسات الدولية المتقدمة التابعة لجامعة جونز هوبكنز، قررت أن أكتب عمّا أشاهده من مظاهر الحياة المختلفة في أمريكا، ولعل ما لفت أنظاري وآثار اهتمامي هو واقع وأحوال المواطنين من أصل أسود في الولايات المتحدة أو بما يسمى أصحاب البشرة السمراء، وأن هذا الموضوع يتردد في خاطري لفترة طويلة تاريخياً واجتماعياً، وكيف أنهم هاجروا من إفريقيا واستقروا بها.
فقد عرفت مثلاً أثناء عملي الأكاديمي والحكومي والدبلوماسي في المملكة العربية السعودية واليابان الكثير من الأصدقاء ذي السحنة السمراء وتحدثنا طويلاً عن أصول تواجدهم في الولايات المتحدة الأمريكية.
محمد علي كلاي
ولعل مما تشرفت بمعرفتهم أثناء دراستي باليابان أو عملي بالرياض نجم الرياضة الذائع العالمي الصيت محمد على كلاي -رحمه الله- والذي كان محبًّا للمملكة بشكل استثنائي، وكان يتمنى أن يعيش فيها للمودة والألفة التي لقاها أثناء زيارته المتكررة لها فلقد قابلته أول مرة في اليابان أثناء دراستي وكان ودوداً جداً، فلقد حضر المباراة الشهيرة التي أقيمت في اليابان وكانت بين الملاكم العالمي مايك تايسون، وأسر إليَّ وقتها بأنه يعمل على ترغيب مايك تايسون في الدخول للدين الإسلامي الحنيف وأنه يسعى جاداً وبكل هدوء وفعلاً تحقق ذلك.
والمرة الثانية التي التقيت بها في العاصمة المحبوبة الرياض وكنت وقتها محاضراً بكلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، حيث دعوته للالتقاء بالشيخ الدكتور العميد سعود بن بشر والدكتور عبدالقادر طاش -رحمهما الله- وبقية أعضاء الكلية والطلبة فكانت زيارة تاريخية لبطل عالمي يزور الجامعة، الجدير بالذكر أنه كان يقوم لأداء صلاة الفجر جماعة بالمسجد المجاور للفندق ويدعونا لصلاة الجماعة، بالإضافة أنه كان محباً للأطفال فعند زيارتنا لجمعية الأطفال المعوقين كان من المفترض أن يجلس هناك نصف ساعة وامتدت لأكثر من ساعة -رحمه الله-، وكان أيضاً يحمل معه كتيباً تعريفياً عن الإسلام باللغة الإنجليزية في جيبه وعندما يطلب أحد الجمهور من غير المسلمين توقيعه، كان يقوم بالتوقيع على هذا الكتيب ويقول لي إن هذا الشخص سوف لن يرمي هذه المطوية لأن بها توقيعي ويضطر لقراءة المحتوى فلعل الله يهديه للإسلام -رحمه الله-.
لقد استرعى انتباهي من الملاكم محمد علي أنه كان يمزح معي عن التفرقة العنصرية في أمريكا ويقول عندما تذهب لشراء ايسكريم وتطلب ايسكريم بالشوكلاتة فإن العامل بالمحل لا يتركك إلا إذا فوقها كريم لونه أبيض!! وتذهب لشراء قهوة سمراء وتجد أنه أيضاً يعطيك إياها معها كريم حليب أبيض!! قال ذلك مازحاً بأن البيض لا يتركون السمرٌ ولا يتركونك لوحدك مهما أكلت أو شربت!! ولعله أراد أن يوضح لي حجم المعاناة التي واجهها -رحمه الله- خلال مسيرته الرياضية في أمريكا.
نعود للموضوع الرئيس فإنه وعلى الرغم من أنني قابلت الكثير من مشاهير السود الذين تشرفت بمعرفتهم إلا أني كنت أرغب في البحث والدراسة عمّا يخص الفرد العادي الأسود أو أحوال المواطنين السود في أمريكا كجماعة عرقية مهمة شكلت مسار التاريخ البشري بصفة عامة والتاريخ الحديث للولايات المتحدة بصفة خاصة.
فالجميع مثلاً يعرف أن الحرب الأهلية الأمريكية (أبريل 1861- مايو 1865) قامت بسبب قضية الرق والعبودية والتي حاول البعض من الجنس الأبيض وقتها في الولايات المتحدة الأمريكية الحفاظ عليها ضد معارضة الآخرين.
مارتن لوثر كينج جونير
وهناك واقعة حدثت معي أخيراً لعلها تكون مدخل هذا المقال وأمر لعله يشرح للعديد من القراء كيف يكون الجدل حول وضع المواطنين من أصل أسود محل نقاش واسع. فعلى سبيل المثال هناك إجازة كل عام في منتصف الأسبوع الثالث من شهر يناير تكُرم ذكرى الزعيم الأسود القس الدكتور مارتن لوثر كينج جونيور، عند الاحتفال بهذه المناسبة فاتحني صديق لي، وقال هل إذا ما كنت أعرف أن هذا الاحتفال يسبب الكثير من المعارضة من قبل العديد من المحافظين والجمهوريين في أمريكا.
فلما استفسرت منه عن أسباب هذه المعارضة قال لي إن هذا الاحتفال تم العمل به في عام 1986، لكنه في نفس الوقت فإنه في شهر فبراير من كل عام هناك عيد رسمي وعطلة رسمية في أمريكا تعرف باسم يوم الرؤساء، وهو يوم يحاول أن يجمع ما بين عيد ميلاد الرئيس جورج واشنطن وعيد ميلاد الرئيس أبراهام لينكولن.
جورج واشنطن في فبراير 1733 وميلاد أبراهام لينكولن في فبراير 1822 وهذا اليوم أيضاً هو يوم لتكريم بقية رؤساء أمريكا.
واستطرد صديقي قائلاً هل تدرك أن سبب معارضة عيد مارتن لوثر كينج هو أنه لديه يوم كامل لتكريمه بينما تنزوي ذكرى كل الرؤساء في يوم واحد فقط. وأضاف صديقي قائلا إن من المعارضين للاحتفال بيوم مخصص لذكري مارتن لوثر كينج كان ريتشارد تشيني نائب رئيس الجمهورية ووزير الدفاع الأسبق والذي كان وقتها عضوٍ في مجلس النواب عن ولاية ويومنج.
كل هذه الأمور كانت تخطر ببالي وأنا أفكر في كيفية معرفة المزيد عن السود في شؤون أمريكا.
لذلك قررت أن أكتب هذا المقال الذي أرجو أن يتطور ويصبح كتاب يفيد قارئ العربية في معرفة أمور لا تزال مجهولة عن المواطنين السود في أمريكا.
ولعل هذه العبارة تلخص ما تريد أن أشرح عن تاريخ السود في أمريكا هو أنه جزء من نسيح التاريخ المعاصر لأمريكا.
وكانت هجرتهم كعبيد سبباً في هذا خلق الكيان والشعور السياسي والاجتماعي والسلوكي للولايات المتحدة.
ولا يمكن لأمريكا أن توجد كدولة إلا بوجود مواطنيها الذين ينحدرون من أصل إفريقي.
وإذا كانت المساواة هي الدفعة التي شكلت الحافز السياسي للسود في أمريكا، إلا أن هناك قضايا مجتمعية خطيرة تؤثر على وجود السود في الحاضر والمستقبل. وأحد تلك القضايا حالياً هي حالة الاستقطاب الحادثة في أمريكا والتي تتلخص في تدهور العلاقات ما بين الأجناس والأعراق المختلفة في الولايات المتحدة، وبالذات العلاقة النامية في التوتر ما بين السود والبيض وربما هذا التطور يؤثر على حاضر ومستقبل أمريكا سلبياً. وأتمنى أن أصل إلى عدة استنتاجات نافعة للجميع بما فيهم سكان الولايات المتحدة من السود والبيض وغيرهم من الاجناس على حد سواء.
تاريخ السود
ويمكن القول بداية إن تقسيم تاريخ السود في أمريكا إلى عدة مراحل تبدأ بعصر الاكتشافات الأوروبية لقارة أمريكا الشمالية والذي أدى إلى جلب ما يقرب من 10 إلى 12 مليوناً من مواطنين من إفريقيا إلى ما هو الآن الولايات المتحدة الأمريكية.
وكان الاعتماد عليهم اقتصاديا لاستخدامهم كعمال حقول لزراعة المحاصيل الزراعية التي كانت تدر عائداً مادياً ونقدياً فورياً والتي تعرف باسم cash crops.
وهناك إحصاءات تقدر عدد السود في أمريكا عندما نالت الولايات المتحدة استقلالها عن بريطانيا العظمى في عام 1776 بحوالي عشرين بالمائة من السكان.
تجدر الإشارة إلى حقيقة مهمة، وهي أن العديد من المواطنين البيض والذين كانوا لهم عبيد سود أخذوا في اعتاقهم بصورة فردية وبشكل بعيد عن أي سياسة حكومية.
ولاشك أن تجربة الرقيق كانت قاسية على السود في أمريكا، بل إن هناك من يفسر سلوك السود في أمريكا حتى الآن على أنه رد فعل ضد صدمة العبودية.
أول الضحايا السود في الثورة الأمريكية
وهذا يعبر عنه بطرق مختلفة فمثلاً، وزيرة خارجية أمريكا السابقة كوندوليزا رايس قالت: لقد حضر البعض إلى أمريكا أحرارًا، لكن البعض منا حضر إلى أمريكا مقيداً بسلاسل، وفي الواقع أنه لا يمكن إنكار دور السود في أمريكا عند نشأتها.
فمثلاً، إن أول شهيد في الثورة الأمريكية ضد الاستعمار البريطاني كان المواطن الأسود كريسبس اتكاس Crispus Attucks والذي لقي حتفه في عام 1770 جراء تحديه سلطات الاستعمار البريطاني.
لكن الدستور الأمريكي مع التعديلات التي أضيفت عليه لم يعالج مشكلة الرق ولم يصدر تشريعات وقرارات بإنهاء العبودية، وعلى الفور برزت قضية الجنوب الأمريكي، حيث كانت ولايات الجنوب الزراعية تعتمد على السود في زراعة مساحات شاسعة من الأراضي بالمحاصيل الزراعية، خاصة القطن.
وهذا الأمر أدى إلى تمسكهم بالاحتفاظ بعدد كبير من السود كعبيد من أجل أن يقوموا بالعمل الزراعي الخاص بالعناية بفلاحة الأرض وحصد تلك المنتجات الزراعية.
وهنا يبدأ النقاش حول الدستور الأمريكي، في عام 1857 أصدر رئيس المحكمة العليا روجر تانيي Roger B. TNEY قراراً في القضية التي كانت تسمى باسم Dred Scott دريد سكوت» الذي عبر عن الرأي بأن الرق يجب أن يبقى كنظام مجتمعي في الحياة الأمريكي، وعلى هذا فإن الشخص الذي حاول التخلص من وضعه كعبد دريد سكوت يجب أن يبقى عبداً.
المطالبة بمنع الرق
تلخص نشاط السود السياسي في المطالبة بمنع الرق وعرفت تلك الحركة باسم The Abolitionist Movement وكان من أبرز قادتها فريدريك دوجلاس Frederick Douglass والسيدة سوجورنير تروث Sojourner Truth أمور كثيرة حصلت، لكن عندما قامت الحرب الأهلية الأمريكية من 12 أبريل 1861 إلى 9 أبريل 1865، لم يقم الرئيس إبراهام لينكولن بشن حرب ضد الجنوب لإعتاق السود من العبودية لكنه شن الحرب من أجل الحفاظ على الاتحاد لأن الولايات الجنوبية التي احتفظت بالرق كانت قد أعلنت انفصالها عن الولايات المتحدة الأمريكية.
فبعد الحرب الأهلية بدأت مرحلة الإعمار في أمريكا والمعروفة باسم إعادة الإعمار The Reconstruction والتي شهدت سيطرة الشمال الجمهوري الصناعي على الجنوب الديموقراطي الزراعي، لكن كانت هنا ظواهر خطيرة في هذه المرحلة.
كانت هناك على سبيل المثال ظاهرة الشنق لأي شخص أسود قد يكون متهماً بإجراء ما غير قانوني Lynching، وهذا كان يمثل إجراء لا يلتزم بالنواحي القضائية لإقامة العدالة بل هو تطبيق العقاب من قبل أشخاص غاضبين من فرد ما بسبب سلوك معين قام به، وأرادوا بهذه الطريقة التخلص من حياته. وكانت هناك أيضاً القوانين المحلية التي أصدرتها الولايات والمدن والمحليات العديدة والتي حافظت على النظام العنصري أو الفصل العنصري Segregation بمعنى أن يكون هناك فصل بين السود والبيض? وعرفت تلك القوانين باسم Jim Crow Laws? والتي استمرت حتى أواخر الستينيات من القرن العشرين?
أمريكا والساحة الدولية
بعدها دخلت أمريكا الساحة الدولية، وشهدت إدارة الرئيس وردوو ويلسون مطالبة أمريكا بحق استقلال دول كثيرة بعد الحرب العالمية الأولى، لكن الرئيس ويلسون نفسه طبّق العرف الخاص بالفصل العنصري ما بين البيض والسود وبالذات في العاصمة واشنطن، لذلك نجحت الدعوى التي أزالت اسمه من أحد الكباري التي تربط ما بين العاصمة واشنطن وولاية فيرجينيا بسبب مواقفه العنصرية.
وجاء هذا تلبية لنداءات من العديد من الزعماء السود بمحو اسم شخص من ممتلك عام بسبب اتجاهاته العنصرية? وحتى وفاته في شهر نوفمبر من عام 1915 احتل اسم المعلم وخبير التربية بوكر واشنطن Booker T. Washington أهم مكانة في مجتمع السود في أمريكا. وعلى الرغم من نبذه للعمل السياسي، إلا أنه كان يقود تحالفاً غير رسمي من القطاعات كافة من السكان السود في أمريكا، بالإضافة إلى العديد من البيض، وبالذات من قاموا منهم بأعمال الخير، ومنح التبرعات المالية للسود. ركز السيد بوكر واشنطن على أن يكون هناك اهتمام بالتعليم وأيضاً بالنشاط الاقتصادي، خاصة الشركات الصغيرة والمتوسطة لذوي الدخل المحدود، وحاضنات الأعمال، وبالعناية برفاهية الأفراد في إطار مجتمعات السود في كل أنحاء أمريكا، وكان يقدم النصيحة بأن يؤجل السود دخول معترك السياسة في هذا الوقت وألا يصرون على إلغاء قوانين الفصل العنصري المعروفة باسم Jim Crow Law ، لأن هذا سيؤدي إلى مقاومة من البيض وإلى مشاكل كثيرة، بالإضافة إلى عدم التأكد من احتمال نجاح السود في مجال السياسة التي هم جديدون عليها، إن صحت التسمية، وفي نفس الوقت كانت هناك مطالب بالتغيير. فمثلاً في عام 1909 تم تأسيس المنظمة المعروفة باسم الجمعية الوطنية للارتقاء بالمواطنين الملونين.
وكان من أحد مؤسسيها الكاتب ديلو.إي.بى.دبواه والذي انتهج مسلك الاشتراكية، ودعا إلى الوحدة الإفريقية، وانتهى به العيش في غانا، والوفاة في أغسطس من عام 1963، بعد أربع سنوات من حصوله على وسام لينين من الاتحاد السوفيتي.
دخلت أمريكا بعدها أيضاً فترة الكساد العظيم في الثلاثينيات من القرن الماضي (القرن العشرين).
هذا ما دفع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت لإقامة برامج حكومية لدفع الاقتصاد، وشمل هذا أيضاً مساعدات للمواطنين السود، مع التدخل الحكومي في الاقتصاد، انتفع العديد من المواطنين السود من عدة فوائد.
ولعل قصة السياسي الأمريكي الأسود رالف باينش Ralph Bunche دليل على هذا، فقد كان مواطناً أسود وحصل على شهادته الجامعية من جامعة كاليفورنيا، وبعدها كان أول مواطن أسود يحصل على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة هارفارد. بعدها تم تعيينه في إحدى الإدارات الحكومية التي تقوم بأعمال التخابر أثناء دخول أمريكا الحرب العالمية الثانية، وكتب كتاباً عن الجنس الأسود أو العرق الأسود في الولايات المتحدة الأمريكية، بعنوان: الرؤية العالمية للأصل العرقي.
بعدها التحق بالعمل في منظمة الأمم المتحدة، وتوجه إلى جزيرة رودس باليونان، حيث نجح في عقد اتفاقية الهدنة ما بين الدول العربية وإسرائيل في عام 1949، وامتد عمله في عدة دول، حيث إنه ناقش مسائل خاصة بمملكة البحرين في عام 1970.
وهكذا كان تقدم المواطنين السود في أمريكا عن طريق البرامج الحكومية، وبعدها يكون هناك تفوق ونجاح في مجالات أخرى، ومن خلال هيئات مختلفة.
كسر حوجز العرق
شهدت الثلاثينيات في القرن العشرين أيضاً قضية المغنية المعروفة ماريان أندرسون السوداء Marian Anderson كانت تسمى تلك النماذج كسر حواجز العرق Breaking the Race Barriers.
قامت هذه المطربة السوداء في أبريل من عام 1939 بالغناء في الساحة المقابلة للنصب التذكاري للرئيس إبراهام لينكولن. جاء هذا بعد أن رفضت جمعية بنات الثورة الأمريكية السماح لها بالغناء في مسرح مشهور لقاعة اسمها «قاعة الدستور». وكان هذا الحادث أيضاً إشارة إلى تنامي حركة الحقوق المدنية للسود، وتأثرها بأحداث اجتماعية متنوعة، أي قضية اجتماعية كانت حديث أمريكا، وعن العلاقة ما بين الأعراق المختلفة.
بعدها دخلت أمريكا الحرب العالمية الثانية، وكان هذا أيضاً أثناء إدارة الرئيس روزفلت، وأذكر هنا قصة عرفتها عن طريق صديق أمريكي من أصل مصري.
قال لي إنه سمع من سيدة سوداء كانت تعيش في مدينة ديترويت في أواخر الثلاثينيات أنه كان هناك توتر عنصري ما بين البيض والسود.
ذكرت تلك السيدة أنه كانت هناك حالة احتقان عنصري عندما سرت إشاعة بأن البيض كانوا قد اختطفوا طفلاً أسود وقتلوه وأخفوا جثته في إحدى البحيرات في ولاية ميشيجان.
والمتأمل لتلك الواقعة عليه إدراك أنه في الوقت الذي كان من المفروض أن تكون هناك وحدة وطنية، نظراً لخوض أمريكا الحرب ضد ألمانيا النازية ودول المحور، إلا أن الجبهة الداخلية الأمريكية كانت ما زال يشوبها توترات عرقية أثناء حرب عظمى.
إلغاء الفصل العنصري
وبعد الحرب العالمية الثانية، كلف الرئيس هاري ترومان مساعده كلارك كليفورد، والذي شغل منصب وزير الدفاع لاحقاً، بأن يصدر تقريراً يتم فيه إلغاء الفصل العنصري ما بين البيض والسود في كل الأماكن والوحدات في القوات المسلحة الأمريكية.
كان هذا الأمر ضرورياً لوقف الشائعات، وأيضاً للتأكيد أن الكل سواسية في القوات المسلحة الأمريكية، لكن أهم تغير حدث بالنسبة لحصول المواطنين السود على حقوقهم، جاء في مايو من عام 1954 عندما قررت المحكمة الدستورية العليا إلغاء الفصل العنصري في قضية التلميذة ليندا براون ضد المنطقة التعليمية في مدينة توبيكا في ولاية كانساس Brown Versus The Board of Education.
لكن هذا الحكم كان له الأثر الرجعي، بمعنى آخر أنه كان نوعاً من الإرغام على ذلك، والذي كان يتحتم تطبيقه على كل الأماكن التي تحتفظ بسياسة الفصل العنصري في كل أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية.
كان هذا القرار صعباً على الكثير من الأمريكيين، مما دعا الرئيس دوايت أيزنهاور أن يصرح إن أكبر القرارات التي اتخذها والتي باتت لعنة عليه هو قراره لتعين حاكم ولاية كاليفورنيا السابق ايرل وارين كبير القضاء في المحكمة الدستورية العليا، حيث كانت المقاومة لقرار إلغاء الفصل العنصري قوية.
ففي أغسطس من عام 1955 قام مجموعة من البيض في ولاية مسسيبي بالجنوب الأمريكي بقتل الشاب إيمت تيل Emmett Till بعد اتهامه بالتحرش بفتاة بيضاء في محل بقالة، وهذا ما أدى إلى إعطاء دفعة لحركة الحقوق المدنية.
ولقد ذكر لي صديقي مرة أخرى محادثة عقدها مع صديقه الأمريكي، والذي قال له: كلنا كنا نريد إنهاء الفصل العنصري مع حلول حقبة الخمسينيات. لكن لم نكن نريد للمحكمة الدستورية العليا أن تقوم بهذا الأمر، وكانوا يفضلون أن تقوم المحاكم الدستورية العليا في كل ولاية من ولايات أمريكا بإصدار هذا القرار، وفقاً لمصالح كل ولاية في الاتحاد وظروفها.
ظهور شخصية مارتن لوثر
بعدها بدأت حركة الحقوق المدنية في الستينيات، وظهرت شخصية مارتن لوثر كينج جونيور والتي كانت تدعو للمساواة بين الأجناس والأعراق.
لذلك اقترح في هذا الصدد أنه يجب دراسة حركة الحقوق المدنية في أمريكا من منظور تاريخي فهي ليست وليدة اللحظة لكنها هي محصلة تطور تاريخي يتعامل مع قضايا العدالة والمساواة في ظروف تاريخية متغيرة دائماً.
استعان الدكتور القس كينج بعدد من السياسيين الأمريكيين الليبراليين الذين كانوا يفضلون إنهاء حالة الفصل العنصري وبالذات في الجنوب.
لذا، عادة ما توصف حركة الحقوق المدنية بأنها كانت تحالف ما بين القساوسة السود (البروتستانت) والمحامين اليهود الذين قاموا بتنظيمها.
إن تاريخ حركة الحقوق المدنية في أمريكا ما زال يكتب على ضوء الكشف على معلومات جديدة خاصة بها، وأيضاً من منظور أن هناك تطورات جديدة تحدث في الحياة في أمريكا، تقتضي مراجعة أهدافها ونتائجها، لكن أهم شيء يذكر لمارتن لوثر كينج جونيور Martin Luther King Jr هو أنه آمن بعدم اللجوء إلى العنف لانتزاع حقوق السود، وعندما اغتيل مارتن لوثر كينج جونيور في أبريل من عام 1968 نشبت أعمال عنف وتخريب في العديد من المدن الأمريكية.
لكن بقي عدد من السياسيين الأمريكيين وبالذات في الجنوب رافضين لفكرة إنهاء الفصل العنصري، وكان من أبرزهم حاكم ولاية ألاباما جورج والاس.
لكن عندما أصيب في حادثة اغتياله في مايو من عام 1972 تغير وأصبح من أكبر السياسيين الموالين للسود.
السبعينيات الميلادية
السبعينيات والثمانينيات الميلادية شهدت تسارعاً كبيراً من أجل أن يحصل المواطنين السود على المساواة كاملة، فمثلاً في عدد مجلة «تايم» بتاريخ 17 يونيو 1974، طرح موضوع غلاف المجلة التساؤلات الخاصة عمّا هي الطبقة المتوسطة لدى السود في أمريكا. وعلى ضوء تلك التغيرات يمكن طرح عدة مناهج بحث عن الوجود للمواطنين السود في أمريكا وإلى أي درجة تم تحقيق المساواة والعدالة.
ويبقى السؤال: هل نجاح السود في أمريكا في السياسية مثل انتخاب أول رئيس أمريكي أسود أو التعينات الكبيرة والكثيرة التي يشغلها السود حالياً في مناصب مهمة مفيدة أم غير مفيدة للمجتمع الأسود في أمريكا؟ وما علاقة الأقلية السوداء بالأقليات الأخرى مثل الهسبانيك HISPANICS والآسيويين ASIAN؟ وهل ثقافة الاحتفاء Celebrity Culture ضارة أم نافعة للسود؟ وما آراء السود سياسياً في الداخل الأمريكي وبالنسبة لسياسة أمريكا الخارجي؟ وما أهم القضايا التي أثيرت وما زالت تثار بشأن السود في أمريكا؟.
أخيراً: مع صعود اليمين المحافظ في الولايات المتحدة.. هل سيؤثر وضع الرئيس السابق دونالد ترمب على وضع ومستقبل السود في أمريكا؟
أسئلة كثيرة نطرحها للقراء، ولعلنا نحاول الإجابة عنها في مقالات لاحقة بإذنه تعالى، والله ولي التوفيق.
**
*د. عبدالعزيز تركستاني
aziiz1234@gmail.com