محمد سليمان العنقري
منذ بداية أزمة كورونا قبل ثلاثة أعوام وما تبعها من تداعيات بتعطل سلاسل الإمداد عالمياً والتضخم يضرب الاقتصاد العالمي فالسياسات المالية والنقدية التي اتخذتها الدول لمواجهة تداعيات كورونا الاقتصادية والصحية خفضت حجم المخاطر منها وإعادة للعالم النمو لكنها أشعلت التضخم بسبب الفائدة المنخفضة والسيولة العالية التي تطارد سلعا محدودة قياساً بالطلب نتيجة تعطل الإنتاج في العالم ويضاف لذلك الحرب الروسية على أوكرانيا التي كانت كصب الزيت على نار التضخم نظراً لأهمية الدولتين عالمياً بسلاسل الإمداد للعديد من السلع حيث فرضت عقوبات على روسيا فاقت 11 ألف عقوبة من تحالف دول بقيادة أمريكا تقف مع أوكرانيا فالتضخم أصبح جاثماً على صدر الاقتصاد العالمي وهناك مخاوف من أن يصبح متلازمة لن تعالج لسنوات طويلة.
فملاحظ أن دول عديدة بدا يظهر أثر التضخم عليها بتراجع عملاتها وارتفاع تكاليف المعيشة فيها ووصول معدلات التضخم لأرقام غير مسبوقة عند 40 في المائة وفي دول الاتحاد الأوروبي فاقت النسبة 9 في المائة لأغلب الدول لفترات طويلة من العام الماضي ولم تبدأ بالتراجع إلا مؤخراً وليس بكل السلع والخدمات وسجلت معظم اقتصاداتها ركوداً بالربعين الماضيين وحتى أمريكا وهي أكبر اقتصاد عالمي تحذر سلطاتها النقدية من احتمالات الوقوع بركود مستقبلاً ومفضلين ذلك على أن يبقى التضخم حالة مرضية باقتصادهم فالهدف إعادته لمستوى 2 في المائة وأغلب الاقتصاديين في أمريكا يقولون لا يمكن تحقيق ذلك إلا بركود اقتصاد قاس، لكن يبقى السؤال هل أثر التضخم سيطولنا مستقبلاً بنسب عالية فالمملكة واجهت احتمالاته مبكراً بعدة إجراءات وقائية كوضع سقف لأسعار البنزين لا يتجاوزه مهما ارتفعت أسعار النفط عالمياً واعتماد مبلغ 20 مليار ريال لمواجهة ارتفاع تكاليف سلع أساسية وغيرها من الإجراءات المهمة لكننا بذات الوقت كجزء من الاقتصاد العالمي نرتبط معه بتفاصيل كثيرة وحجم وارداتنا ضخم يتجاوز 500 مليار ريال سنويا فبكل تأكيد سيكون هناك تأثير لما يمكن تسميته التضخم المستورد وقد يكون لارتفاع قيمة الريال المثبت بسعر محدد أمام الدولار القوي حالياً دور بتخفيف اثر ارتفاع أسعار الواردات من دول المنشأ التي هبطت عملاتها أمام الدولار لكن ذلك يبقى أثره محدوداً أيضاً إذا ما فشلت الجهود الدولية بلجم التضخم ومنع الانزلاق نحو الركود التضخمي والذي ما زالت احتماليته قائمة رغم رفع الفائدة في أكبر البنوك المركزية بالعالم بتسارع كبير ولنسب فاقت 5 في المائة مع إمكانية إقرار مزيد من الارتفاعات مستقبلاً مع ظهور تباين بقراراتها فالفيدرالي الامريكي يرفع الفائدة ويضخ سيولة من جهة أخرى وهما توجهان متناقضان في معالجة التضخم وهو ما يثير القلق حول قدرتهم على إدارة هذا الملف دون تداعيات سلبية أكبر من التوقعات.
فالمملكة حققت نمواً اقتصادياً هو الأفضل بين دول مجموعة العشرين العام الماضي وما زال توقع تحقيق نمو جيد لهذا العام قائماً رغم تراجع إنتاج وأسعار النفط وحالة عدم اليقين بالاقتصاد العالمي لكن الضخ الرأسمالي بالاقتصاد ضخم وهو ما يدعم النمو بالقطاع غير النفطي وكذلك معدلات التضخم مازالت منخفضة عند 2.8 في المائة لشهر مايو الماضي وفق بيان الهيئة العامة للاحصاء وهي من الأقل عالمياً، ولكن في داخل المؤشر يظهر ارتفاع لتلك الفنرة في أسعار السكن والمياه والكهرباء والغاز وأنواع وقود أخرى بنسبة 8.4 في المائة وأسعار الأغذية والمشروبات بنسبة 0.9 في المائة كما شكلت أسعار الإيجارات التي تعتبر المؤثر الأكبر في زيادة التضخم خلال شهر مايو 2023 مقارنة بشهر مايو 2022، اذ ارتفعت الإيجارات للمساكن في المملكة بنسبة 9.9 في المائة وكان للزيادة في أسعار إيجارات الشقق الأثر الأكبر بنسبة 23.7 في المائة، فمثل هذا النسب التي ارتفعت ببعض البنود تستوجب دراستها والحد من تأثيرها عبر إجراءات تحتاجها السوق العقارية فيما يخص تنظيم سوق الايجار التجاري والسكني حيث يتم رفع الايجارات من بعض الملاك بنسب كبيرة تفوق 50 في المائة احياناً حسب ما يتردد بالسوق وهي قفزات كبيرة ترهق المستأجر سواء للسكن أو بقطاع الأعمال حيث يلاحظ تأثير ارتفاع الايجارات على أسعار بعض نشاطات التجزئة فأسعار الوجبات السريعة مثلاً ارتفعت بنسب ليست بسيطة لدى بعض المطاعم ويلحظ ذلك من يتعامل معها بشكل دائم فإذا كانت المواد الرئيسية لمدخلات منتجهم أغلبها أسعارها مدعومة ولم تتغير والرقابة عالية من الجهات المختصة فلا بد أن يكون التأثير من عوامل أخرى كالايجارات كما أن ارتفاع اسعار العقار المعد للتملك خلال السنوات القليلة الماضية مع الضخ الكبير بالقروض العقارية أدى مؤخراً لتراجع بعقود التمويل بنسب كبيرة نتيجة ارتفاع اسعار الفائدة وكذلك ارتفاع اسعار العقار والذي وصفه معالي وزير الشؤون البلدية والقروية والاسكان ماجد الحقيل بأنه مبالغ فيه قليلاً بالاضافة الى تمكين الكثير ممن كانوا على قوائم الانتظار من شراء المساكن فالسوق بحاجة لمراحعة بحجم العرض وتنوعه لمنع تضخم الاسعار مستقبلاً.
معالجة التضخم مسألة شائكة بالنسبة لأي اقتصاد بالعالم، وغالباً ما تكون آليات زيادة المعروض من السلع والخدمات أحد أهم عوامل الحد من حدوثه وكذلك وضع الضوابط التي تنظم الأنشطة الاقتصادية بما يحد من أي ظواهر ترفع الأسعار بنسب عالية وبوقت قصير فالتضخم اثاره ضارة تبدأ بضعف النمو الاقتصادي واحتمال دخوله بركود وكذلك تراجع ارباح قطاع الأعمال مما يحد من نموه وتوسيع اعماله بل وحتى خروج بعضهم من السوق اذا تحول للخسائر خصوصاً المنشآت الصغيرة والمتناهية الصغر مما يقلل من حجم فرص العمل الجديدة قياساً بعدد الداخلين للسوق سنوياً بالاضافة لتراجع الانفاق الاستهلاكي للفرد وهو عامل مهم بالنمو الاقتصادي.