رمضان جريدي العنزي
في حضرة مزرعتي التي تقع في البلدة الهادئة، أهادن نفسي، وأرسم أين تكون شجرة التفاح والليمون، ودوار الشمس، وأين تكون عريشة العنب، مكان الزير، وعريشة السعف، أرسم مسافات النخل، تذبحني رغبات التخطيط، استيقظ من الصباح المشع، مردداً بعض النشيد كما يفعل الفلاحون القدامى، أدور فيها من أول النهار لآخره، أتطاول فيها مثل تطاول سنبلة نحو الفضاء الطويل، أحاكي نفسي، متى يكبر الزرع، ليصبح سهوبا، يدهش الروح ويأخذني نحو التأمل، أفكر بأشياء كثيرة، تكبر عندي حاسة التأمل، وأحلم مزروعاً بألوان الأمل، أحلم بالقمح، وحبات الرطب، عن سنبلة طافية فوق الريح، عن جدول ماء صغير، عن زنيقة في الصباح الشاعري، عن زهرة سفرجل، عن عزف ريح هادئة، عن شجر نضاخ بالثمر، وأرهف سمعي لصوت الطيور الجميلة، وصوت هديل الحمام، مشغول أنا بالمزرعة، ومسكون بها، أسابق الخطى، أريد أن أرى الذي تريد أن تراه عيني، لون الغصون، وظل الشجر، وساقية الماء، وسرب الطيور، يبحث عن عش وماء، أدور فيها، كأنها أبجدية في قاع قلبي، أو أيقونة للمحبة ملء دمي وذاتي، يندلع في أنفي رائحة الريحان، وتحتشد في عروقي لون الذرة، بين وقت وآخر أيمم وجهي لها، يملؤني ماء الحنين، ولون الطهارة، هي عندي كأنها بسمة، أو طيف مسك، أو ظل نخلة، أو مرآة عاكسة، هي عندي مثل الكلام الجميل، أو كنسمة لطيفة عابرة، الغيوم التي تمر من فوقها لوحة أخاذة، خيوط القمر في الليالي المقمرة سريالة لها أبعادها، والنجوم فوقها مصابيح حانية، الأقحوان من بقايا الربيع يحفها كسور معصم، تستحم روحي مع فيروز في الصباح الباكر الندي:
(يا كروماً لنا.. حاليات الجنى..
ضاحكات الشفاه.. للسلال..
أنت فوق الذرى.. حلم هذا الثرى..
واشتياق الشموس للظلال)
حتى الشموس فيها أليفة، وإن كانت في عز الظهيرة، يزهر فيها بالعنفوان وجهي، على صهوة الوجد والحلم استريح، أفهم فيها سر الحياة، وانكشاف الوضوح، هي المزرعة ترفع عن كاهلي بعض التوجس وبعض التعب، تحضنني وترتقي بي للأعالي، وتكلمني بالمعاني، بحرير الكلام المعطر، فيا رب ما بين حلم يرفرف مثل اليمام الذي بالسماء، إلى انتهاء فسيح بحجم الفضاء.