عبدالوهاب الفايز
المشرقيون من الليبراليين المتطرفين الغارقين في التماهي حتى العظم مع الحضارة الغربية والذين ينتظرون أية مناسبة لتمجيدها.. لن يسرهم سماع هذا الخبر:
(تقدّم ملك هولندا فيليم ألكسندر، السبت الماضي، باعتذار رسمي تاريخي عن ممارسة بلاده العبودية خلال الحقبة الاستعمارية، وذلك لمناسبة مرور 150 عاماً على إلغاء الرق في المستعمرات السابقة. وقال العاهل الهولندي خلال احتفال في أمستردام «أقف اليوم أمامكم كملك لكم وكجزء من حكومتكم، لأعتذر شخصياً». وقال الملك إن «تجارة الرقيق والعبودية جريمة ضد الإنسانية. الملوك وحكام عائلة أورانج - ناسوا لم يقدموا على أي خطوة ضد ذلك». وأضاف «أنا أطلب المغفرة عن عدم التحرك في يوم نحيي (ذكرى) العبودية في هولندا».
بالتأكيد كلنا نتفق على أن الشعوب الإفريقية تستحق هذا الاعتذار المتأخر، فالغارقون في البحار غالباً أفارقة، ومؤلم رؤية فقراء القارة مازالوا يحتفلون بالماء المتدفق من بئر يتبرع بها محسنٌ.
هذا الاعتذار المثير، ومن قبله (حوار مقارن) دار حول تعاطي الإعلام الغربي مع حادث أثرياء الغواصة المنكوبة وغرق قارب الصيد المشحون بما يقارب الـ 750 شخصاً جنوب اليونان، فهناك من رأى أن إهمال الإعلام الغربي لغرق اللاجئين غير مستغرب, وهناك طبعاً من دافع عن الإعلام الغربي وقال: أنتم أيها المتخلفون لا تفهمون إعلام الدول المتقدمة.. إنه يبحث عن الدراما الساخنة الممتعة، وهذا ما يريده جمهوره، يريد الإثارة والتسلية، هذا هو الإعلام الحقيقي (الممتع) الراقي الذي أنتم له منكرون.
* * *
هذه الأحداث ذكرتني بكتابي الصحفي الأمريكي والتر رودني، و أستاذ الاجتماع السياسي د. علي مزروعي، وقد كانا حديث الأوساط الأكاديمية الأمريكية عندما كنا في ندرس مطلع التسعينيات، مع عودة نلسون منديلا بطلاً في المشهد السياسي العالمي، وانتهاء الحكم العنصري البغيض في جنوب إفريقيا. عودة مانديلا حينها فتح الباب لاسترجاع التاريخ المظلم لأوروبا وأمريكا ودورهما في تخلف شعوب إفريقيا وآسيا، فالبربرية الغربية وجدت طريقها إلى البحار لتطلق صناعة تجارة العبيد ونهب الثروات، واستعباد الشعوب.
الكتاب هو How Europe Underdeveloped Africa (كيف ساهمت أوروبا في تخلف إفريقيا)، صدر عام 1972. يحلل الكتاب الطرق التي استغلت بها أوروبا إفريقيا واضطهدت شعوبها وبالتالي أدى إلى تخلفها.
وفقًا لـ رودني، أدى الاستعمار الأوروبي لإفريقيا إلى استغلال موارد القارة، خصوصاً البشر حيث خطفت أكثر من خمسة ملايين إنسان كعبيد (هل تذكرون رواية الجذور المخيفة)، ثم استنزفوا المواد الخام بكل أنواعها حيث استثمروا قوتهم العسكرية، وأوجدوا نظاماً اقتصادياً تعمل فيه إفريقيا بشكل أساسي كمورد للمواد الخام إلى أوروبا، بينما تصدر أوروبا السلع النهائية إلى إفريقيا. وقد أدى ذلك إلى منع تطور الصناعات المحلية في إفريقيا، مما أدى إلى نقص التنويع الاقتصادي، وهذا الوضع قائمٌ إلى الآن.
وأبرز الكتاب كيف أدى الاستعمار الأوروبي إلى تدمير الثقافة الإفريقية والهياكل الاجتماعية التقليدية حيث فرضت القوى الأوروبية لغتها ودينها وقيمها الثقافية على المجتمعات الإفريقية، مما أدى إلى فقدان الهوية الثقافية. (هذا الذي يخيفنا الآن من إهمال اللغة العربية).
طبعا هذا الكتاب حقق السبق في الدراسات الإفريقية لأنه ربط بمنهج علمي، أي بالوثائق والأدلة، بين تخلف إفريقيا ودور أوروبا. (كما فعل ديفيد فرمكين في كتابه المهم «سلاماً ما بعده سلام» الذي أثبت دور أوروبا في حروب وصراعات الشرق الأوسط). ثم كانت حلقات علي مزروعي الوثائقية The Africans والتي بُثت في الشبكات العامة في بريطانيا وأمريكا. هذه الوثائقيات أزعجت كثيرين لأن هناك من رأى أنها تلقي باللوم في الكثير من مشاكل إفريقيا على التأثيرات السلبية لأوروبا وأمريكا. طبعًاً لا يريدون كشف تاريخهم المظلم.
عموماً هذه الكتب والوثائقيات قدمت غيضاً من فيض، فلدينا الأمثلة الحية الإضافية لدور أوروبا في تخلف إفريقيا. فمازال الأوروبيون يستغلون ثروات إفريقيا المعدنية من الذهب والماس والنحاس واليورانيوم، ويؤدي ذلك إلى استنفاد الموارد وتدهور البيئة وتخلف التنمية. وأيضاً استخدمت القوى الاستعمارية الأوروبية العمالة الإفريقية لبناء بنيتها التحتية وزراعة المحاصيل للتصدير، دون دفع أجر عادل. ساهم ذلك في تخلف الاقتصادات الإفريقية، وهذا ما زال قائماً حتى الآن.
ولا يمكن النظر في تخلف إفريقيا تجارياً دون النظر في الأسباب التي أنشأت اختلالاً تجارياً بين أوروبا والدول الإفريقية. الخلل أدى إلى مزيد من التخلف، فقد صَدَّرت البلدان الإفريقية المواد الخام بأبخس الأسعار.. ثم استوردت السلع المصنعة من أوروبا بالثمن الباهظ (مثلاً: زراعة القطن في مصر والسودان). ونظام التجارة غير العادل حرم البلدان الإفريقية من تطوير صناعاتها وتحقيق الاكتفاء الذاتي.
وأسوأ ما فعل الغرب سابقاً ويفعل حالياً في إفريقيا هو: زعزعة الاستقرار السياسي, لقد أوجد الأوروبيون المستعمرون حدوداً مصطنعة قسمت المجتمعات الإفريقية وأوجدت الانقسامات العرقية والسياسية. وسياسة فرق تسد أدت إلى عدم الاستقرار السياسي والافتقار إلى حكومات قوية ومستقرة في العديد من البلدان الإفريقية.
كما قلنا، أمر إيجابي أن يعترف الأوروبيون بهذا الإرث الاستعماري البغيض وإثارة المدمرة الحية في إفريقيا حتى اليوم. نتألم حين نرى العديد من البلدان الإفريقية تصارع لمعالجة تحديات الاختلافات الهيكلية التي أوجدها الاستعمار. فعليها أن تعالج مشاكل الخلل في التوزيع غير المتكافئ للثروة، وتعمل على تحقيق شمولية التعليم والرعاية الصحية، وعليها مقاومة عدم الاستقرار السياسي.
وأخيراً وحتى نكون موضوعيين، ربما يصعب التعميم حول ما إذا كان الأوروبيون يعترفون بدورهم في تخلف إفريقيا. فالاعتراف متزايد من العديد من الدول الأوروبية حول الآثار السلبية للاستعمار على مستعمراتها السابقة. قدمت بعض الحكومات الأوروبية اعتذارات عن أخطاء الماضي واتخذت خطوات لمعالجة بعض الآثار المستمرة للاستعمار، مثل برامج المساعدة والتنمية.
المؤسف أن الأوروبيين يعترفون بأخطائهم.. وبعض العرب (المستغربة) ينكرون دور الغرب في تخلف الشرق.
تلاميذ الشاعر الإنجليزي روديارد كبلنغ، صاحب: الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا.