د.عبدالله بن موسى الطاير
بعض الأصدقاء في المعسكر الليبرالي منزعجون جداً من دعوة الرئيس الفرنسي ماكرون الأسر الفرنسية لتحمل مسؤولياتها تجاه أطفالها المراهقين الذين يزداد انخراطهم في المظاهرات وأحداث الشغب العنيفة في فرنسا هذه الأيام بسبب مقتل مراهق على يدي الشرطة عن سابق إصرار وتعمد. غضب الأصدقاء سببه أن تلك الدعوة تتعارض مع المبادئ الفردانية التي كُرست في المجتمعات الغربية. فإذا كانت التشريعات تعطي الطفل الحق في تعلم ما يشاء، وأن يختار اسمه، وأن يُنادى على أنه حيوان، مثلي، ذكر، أو أنثى، فكيف لا تعطيه الحق في التظاهر وتحمل مسؤولية قراراه، وعلى الشرطة أن تسهل له هذا القرار كما يفعل الأب والمعلم والطبيب الذين لا يجوز لهم في ظل التشريعات التقدمية حتى إسداء النصح للطفل.
الليبرالية عندهم ليست موضة، أو نزوة عابرة، وإنما هي «عقيدة سياسية تجعل حماية وتعزيز حرية الفرد المهمة المركزية للسياسة»، وعلى الحكومة التي هي «شر لا بد منه» -من وجهة نظرهم- حماية الأفراد شريطة ألا تشكل حمايتها تهديدًا للحرية الشخصية. القوانين، القضاة والشرطة عند الليبراليين مسخرون لتأمين حياة الفرد وحريته. فالليبرالية تعزز انشغال الغرب بالفردانية، وتخفيف وطأة الأعراف والقوانين والسلطة، وخلال مسيرتها وصلت للحد الذي تعتبر فيه الحكومة مجرد «حارس ليلي» يحمي الفرد والمكان الذي يؤويه لا أكثر.
ولأن لي أصدقاء في المعسكر المحافظ المقابل، فقد وجدتها فرصة سانحة لحقن مشاعرهم بجرعة من الأدرينالين التي يفرزها حنق الليبراليين وشعورهم بالخذلان من الحكومة الفرنسية. المحافظون يختلفون مع الليبراليين في مفاهيم مفصلية؛ في حين أن المحافظين يُفضّلون الاستقرار ويهتمون بنظام المجتمع، ولا يجنحون إلى التغيير، ويديمون الوضع الراهن، فإن الليبراليين مغرمون بالتغيير وبالتالي لا يكترثون بالاستقرار في المجتمع إذا كان على حساب القيم الفردانية والحريات الشخصية، وهم مع اقتتال دام يعصف بأمن واستقرار المجتمع في سبيل صون الحريات.
المحافظون يفاخرون بالتزام تقاليدهم ومؤسساتهم الاجتماعية كالأسرة والمعتقد، ولا يهتمون بما هو صواب أو خطأ طالما أن السلطات تقوم به، فعندهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية الدولة، في خلاف بائن مع الليبراليين الذين يعتقدون أن الصواب والخطأ مسؤولية الفرد، ويشككون في قرارات السلطات عندما تمارس بيان الصواب من الخطأ.
المحافظون أكثر انغلاقًا، ولا يقبلون الرأي المخالف إذا كان سيعرض الاستقرار للخطر، ويمس التقاليد الراسخة، بينما يحتفل الليبراليون بالانفتاح، ومهيؤون لقبول المختلف على حساب الثوابت، والتقاليد التي لا تعني لهم سوى أنها قيود تحد من حرية الفرد. تستند أيديولوجية الليبراليين إلى القيم الأساسية للحرية والمساواة وحقوق الإنسان. هذه القيم الأساسية، بالنسبة لهم «مقدمة على التقاليد وأفعال الدولة». المحافظون يسمعون ويطيعون قرارات السلطة، حتى لو تعارضت مع حقوقهم الفردية كمواطنين. يرى الليبراليون أن الدولة مسؤولة عن رفاهية المواطنين، ويجب أن توفر المرافق الأساسية للجميع. يرى المحافظون أن الدولة ليست مسؤولة عن رفاهية المواطنين وأنهم يملكون قراراتهم في تلبية احتياجاتهم الخاصة.
لدى الفريقين، في أمريكا تحديدًا، مواقف متباينة في معظم القضايا الاجتماعية السائدة كالهجرة، الإجهاض، المثلية، الأسلحة، وعقوبة الإعدام. الليبراليون يدعمون الحريات الشخصية، ويعارضون قوانين تقييد الهجرة، ويدعمون الإجهاض والمثلية، ويعارضون حيازة الأسلحة وإيقاع عقوبة الإعدام، أما المحافظون فعلى النقيض تمامًا في كل ما سبق.
لعقود طويلة يشعر المحافظون وبخاصة المتدينين بالقلق من سرعة التقدميين في نشر أفكارهم والتمكين لها، ويرون أن حياة الأمريكيين أصبحت لعبة بيد الليبراليين مدعومين بالإعلام والتعليم ومؤسسات الدولة -التي يعاديها الليبراليون- ويمارسون «الاستبداد الناعم» لتحويل الأفكار إلى تشريعات تفرض بقوة القانون.
في سجال الفريقين، أصبحت الأسرة ميدان الحروب الثقافية لأنها المكان الذي تتشكل فيه هوية الإنسان. يعتقد المحافظون أن مؤسسات التعليم العام والعالي أصبحت أكثر جرأة في تلقين الشباب أيديولوجية الإيذاء والسخط والاستحقاق الفردي، وتصوير العادات والتقاليد ومؤسسات المجتمع وبخاصة الأسرة والدين والسلطة على أنها العدو الذي يتربص بالحريات.
النهج الليبرالي ليس بذلك القدر من التسامح الذي يبدو عليه للوهلة الأولى، فهم المحركون الأساس للثورات لأنهم لا يعيرون الاستقرار كثير اهتمام إذا كان على حساب الحريات الفردية، وهم كذلك يرسخون عداء الدولة التي لا تعدو أن تكون شرًّا لا بد منه وفقًا لمنظريهم، وهي في أفضل حالاتها حارس ليلي لحماية الحريات وليس الأمن والاستقرار.
بعد أن تيقن صديقي المحافظ أنه قد شيطن الليبراليين، سألته: ما بال جميع الذين أحرقوا المصحف من اليمين المتطرف، وعن سر دعمهم الصهيونية بلا حدود؟ ضحكته الصاخبة لم تبد تنصلًا من التهمتين، ولكنه أضاف لهما: واليمين المحافظ «المتطرف» هو الذي يؤمن بأن الحرب الصليبية آتية لا محالة. قلت له عندنا مثل يقول طلقها وخذ أختها، قال تبًّا لها ولأختها.