عبدالرحمن الحبيب
«المال يسبق التاريخ» كما يقول الكاتب الاقتصادي جافين جاكسون مستعرضاً مجموعة من الكتب حول تاريخ المال، فقبل أن يخترع سكان بلاد ما بين النهرين القدماء وسائل الكتابة كانوا قد اخترعوا النظم المالية والمحاسبة، باستخدام الرموز المسمارية لتتبع تدفق البضائع من وإلى المعابد. يعتقد أن استخدام الأساليب الشبيهة بالمقايضة يعود إلى ما لا يقل عن عشرة آلاف سنة، أما أول استخدام لنقود السلع في بلاد ما بين النهرين فقد ظهر قبل حوالي خمسة آلاف سنة..
قصص تاريخ المال بحد ذاتها مشوقة، وتساعد على فهم كيفية عمله اليوم.. النظرة الشائعة للمال على أنه «شيء»، مثل قطعة معدنية أو عملة معدنية، هي وجهة نظر خاطئة ومضللة... إنها تشبه إلى حد كبير لغة مشتركة أو عقد اجتماعي منذ بداية النقود الحجرية الضخمة ما قبل كتابة التاريخ إلى يومنا الحاضر؛ حيث يعتمد إنشاء مقياس للقيمة مقبول بشكل عام على الاتفاق الجماعي، بما في ذلك بين أصحاب السلطة والمصرفيين، الذين حاولوا في كثير من الأحيان تغيير شروط هذه الصفقة لصالحهم؛ حسبما يذكر فيليكس مارتن في كتابه «المال: السيرة الذاتية غير المصرح بها» الذي صدر في ظل الأزمة المالية العالمية 2007-2008.
المتعة في تتبع تاريخ المال حولت عالم الآثار ويليام جوتزمان من أمين متحف إلى أن يصبح بروفيسور المالية في إحدى أقوى الجامعات في العالم: جامعة ييل، وأصدر كتابه «المال يغير كل شيء» عام 2016 ليلقي نظرة شاملة للتاريخ النقدي، متتبعاً تاريخ المال بدءًا من مواقع الحفر العراقية وانتهاءً بأمريكا ما بعد الحرب العالمية الثانية، موضحاً أن الابتكارات المالية كانت عاملاً أساسياً في التغيير الحضاري.. وقدم تحفاً نادرة ومدهشة لألواح بابلية ومزهريات صينية من القرن الحادي عشر وميثاق طوله ثمانية أقدام لأول شركة أوروبية، وهي مطحنة في تولوز الفرنسية.
أما المال كعملة موحدة فيعود تاريخه إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام تقريباً حين انتقلت الصين من استخدام الأدوات الحقيقية والأسلحة كوسيط للتبادل واستخدمت نماذج مقلدة صغيرة لذات الأدوات بقالب برونزي، فلم تعد الخناجر الصغيرة والمجارف والمعاول والسهام الجارحة مناسبة للتبادل النقدي واستبدلت بأدوات أقلّ أذى وتحولوا إلى استخدام قطع معدنية على شكل دائرة وأصبحت البداية الفعلية لأول النقود المعدنية.
إذن، لا يمكن لقطار تاريخ المال المضي دون التوقف ملياً في المحطة الصينية، فالصينيون اخترعوا النقود الورقية (النوع غير المدعوم بالمعادن الثمينة) قبل ما يقرب من ألف عام من قيام أوروبا بذلك. كتاب «التاريخ النقدي للصين» لمؤلفه الصيني بنغ شينوي صدر في مجلدين في الخمسينيات من القرن الماضي، ولم تتم ترجمته إلى اللغة الإنجليزية إلا في عام 1993، ويغطي ما يقرب من 3000 عام، بدءًا من العملات الصدفية لرعاة البقر وتنتهي بالدولار الفضي والبنوك الأجنبية في فترة ما قبل الثورة الصينية، مصححاً الفكرة التي تزعم أن هناك طريقة واحدة لتطوير المال، فالصين طورته بطرق شتى.
إذا كان المال تطور عبر التاريخ بطرق مختلفة فلعل كثيراً منا يرى المال كمبلغ نقدي خام وقيمته تكتسب من قدرته الشرائية، لكن فيفيانا زيليزر بروفيسورة علم الاجتماع في جامعة برينستون لها رأي آخر في كتابها «المعنى الاجتماعي للمال» حيث تشق طريقها في مناطق أمريكا بين عامي 1870 و1930 لتروي تاريخًا اجتماعيًا للمال. تفحصت فيفيانا مقالات المجلات مثل «كيف نعيش على ألف دولار في السنة»، وقضايا المحاكم، ومن طرائفها عندما أصدر أحد القضاة، في قضية عام 1908، أن «للزوجة الحق الكامل في مراجعة جيوب زوجها في الليل”، والكثير غيرها، مما يوضح كيف يتخذ المال معاني مختلفة.. سيقرر الأزواج أي جزء من مواردهم المالية يملكه الزوج أيها تملكه الزوجة، وما يحق لكل منهما أو مطلوب إنفاقه عليه. يمثل عمل فيفيانا تحديًا للاقتصاديين الذين يميلون إلى رؤية المال على أنه سلعة تبادلية ونفعية.. والكتاب هو مثال نادر لتاريخ نقدي يروي من القاعدة التحتية للمجتمع وليس فقط من أعلى (الحكومة والبنوك).
إذا كان ذلك هو البعد الاجتماعي، فما هو البعد الدولي للنقود، وما هو دور المال في العولمة؟ يروي باري إيتشنغرين، البروفيسور في جامعة كاليفورنيا، حكاية محاولات مختلفة على مدى القرنين الماضيين لإنشاء نظام نقدي دولي. يبدأ الكتاب في عصر معيار الذهب الكلاسيكي، عندما ربطت الاقتصادات الرائدة في ذلك الوقت عملاتها بالذهب، قبل أن يروي قصة تفككها بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. وأعقب ذلك محاولة في بريتون وودز (1944) لإنشاء نظام نقدي جديد لتأسيس استقرار مالي دولي بمنع تبادل العملات بين البلدان والحد من المضاربة في العملات الدولية، على الرغم من أن ذلك أيضًا انهار ودخل النظام النقدي في عصر العولمة وتدفقات رأس المال الحرة.
تاريخ المال نفسه رائع، إضافة إلى أنه يساعد في شرح كيفية عمله في وقتنا الحاضر، فالمال لديه الكثير من القصص الممتعة ليرويها، وليس كما يراه مجرد قطعة نقدية بل إن له دوراً أساسياً في تطور الحضارة وفي القيم الاجتماعية والمعنوية..