- إذا كان لكل تأجر أصول مالية ورأس مال ونشاط في تداول السلع والخدمات فإن مهنة المحاماة رأس المال الحقيقي فيها هو المعرفة والخبرة والمواكبة لمجريات الحياة وتطور القانون، فهي ممارسة في اكتساب المعرفة وإعادتها للمجتمع في صورة مساعدة قانونية للعملاء ومساندة للقضاء. ولذا فإن مهنة المحاماة هي في الواقع ذهنية بحتة في مدخلاتها ومخرجاتها وحتى المذكرات القانونية والردود والاستشارات ونحوها لايمكن النظر لها على أنها سلعة بل هي خدمة في إطار القانون ومن خلال الإجراءات القانونية اللازمة. أي أن المحامي يسلك الطريق القانوني ويقدم موقفه القانوني ويستند إلى النصوص القانونية والوقائع الحقيقية والأدلة التي يعترف بها القانون والقضاء ويتوج ذلك برأيه الذي يدافع عنه.
ولذا فإن كل الوسائل المشروعة متاحة متى تم استخدامها بصورة مشروعة فالمحاماة مهنة المشروعية في كل مراحلها أو بمعنى آخر مشروعية الوسيلة ومشروعية الغاية أيضاً. فليس في مهنة المحاماة مجال للمكيافيلية فالغايات لا تبرر الوسائل ومن ثم يجب أن تكون الوسائل مشروعة قانوناً والغايات أيضاً مشروعة وفق القانون الذي تجريه المحاكم على الدعاوى القضائية المعروضة أمامها.
والذي يثير هذا السؤال هو ما نشرته وسائل الإعلام أن محكمة أمريكية قررت إحالة أحد المحامين للتحقيق بعد أن أفاد المحكمة بأنه استخدم موقعاً إلكترونياً للذكاء الاصطناعي في التحضير للقضايا المعروضة أمام المحكمة. وذكرت وسائل الإعلام بأن المحكمة أشارت في نص قرارها بإحالة المحامي للتحقيق بأنها بصدد حالة غير مسبوقة وأن المحامي استشهد بسوابق قضائية غير صحيحة. وهذا القرار من المحكمة معناه أن المحامي كذّب على المحكمة في الاستشهاد بالقانون فمن المعروف أن السوابق القضائية تعتبر قانوناً في الدول ذات النظام الأنجلو- أميريكي.
والسؤال لم يعد هل للمحامين استخدام الذكاء الاصطناعي في نشاط مهنة المحاماة لأنه ما لم يوجد نص بالمنع فالأصل الجواز وهذا مبدأ منطقي قبل كل واحد وإذاً فهو مبدأ عالمي التطبيق ويستمد أساسه من فهم فلسفي لحدود الممنوع والمباح وهو مبدأ إنشاء وتطور في شرائع مختلفة ونظم قانونية قديمة وحديثة أيضاً، ولكن السؤال هو ما مدى السماح للمحامين بعرض ما يقدمه لهم الذكاء الاصطناعي أمام المحاكم وكذلك الجهات الرسمية والخاصة التي يمثلون وكلاءهم أمامها؟
إن الإجابة على هذا السؤال مفتوحة على كل الاحتمالات سواء بين المحامين أنفسهم أو مع المحاكم والجهات التنفيذية لأن هذا الاستخدام للذكاء الاصطناعي لا يزال رهن الاستكشاف وعدم اليقين في حدوده التي يمكن القول إنها تضبط هذه الممارسة وتسخرها لخدمة الحقيقة التي هي الأساس الموصل إلى العدالة التي هي غاية القضاء وبها يتحقق إنفاذ القانون على الوجه المقبول.
وسأحاول قبل الإجابة على هذا السؤال أن أبدأ بالعودة الضرورية جداً إلى الجانب الذهني لمهنة المحاماة فهي ليست مجرد تفكير آلي أو تحليل رقمي للبيانات بل هي عملية تأمل نفسي للحالة تبعث لدى المحامي اليقين أو الرغبة في تبني قضية معينة والدفاع فيها عن أحد أطرافها وهذه المعالجة النفسية يصاحبها حضور للجانب الأخلاقي والقيمي حيث نجد محامين يرفضون قضايا تعرض لهم رغم ما فيها من إغراءات وفي المقابل يقبلون قضايا رغم عدم ملاءة أصحابها وأحياناً يقبلونها مجاناً. إذاً هناك جانب إنساني بشري يعتمد على الموازنة بين عدة عوامل وهي تقود إلى القرار الصواب الذي لا يلام فيه المحامي أمام القضاء ولا يلوم نفسه بعد السير في الإجراءات القانونية للقضايا التي اختارها.
**
بقلم: المحامي د.أحمد العمري