محمد سليمان العنقري
عصر الفضائيات ووسائل التواصل ومنصات الإعلام حول البشرية لتكون في قلب متابعة ما يدور في أي بقعة من العالم وأعطى ذلك الفرصة ليس للاطلاع فقط، بل لإبداء الرأي من قبل كل فرد قادر على التواصل عبر الإنترنت حول اهتماماته بالأحداث الدائرة أياً كان نوعها سواء سياسية أو اقتصادية أو رياضية وطبية وبمختلف قضايا الشأن العام والعلوم ويمكن النظر لذلك بإيجابية فتفاعل الناس مع أي حدث أمر مهم، فسابقاً كانت الرسالة الاتصالية تمر بأربع مراحل تبدا من المرسل فالرسالة ثم الوسيلة فالمتلقي ولكن التكنولوجيا الحديثة سمحت بتفاعل الطرف الرابع ليصبح قادراً على التعليق وإبداء الرأي وهو ما شكل تطوراً مذهلاً سمح بفهم أوسع لكيفية أثر كل حدث بالمجتمعات وتقييمهم له وتوقعهم لمساره فظهرت آراء عديدة تمتزج بين العاطفة والتحليل المنطقي وتعبر عن ثقافة كل فرد ومدى ثقافته ومعرفته، بل كيف تشكلت أفكاره فجميع الآراء تحترم ولكن في نهاية المطاف تبقى الوافعية هي ما ستؤول إليه القراءة الدقيقة التي تثبتها الأيام مع مرور الوقت بالاضافة لارتباطها بالماضي بحسب طبيعة كل حدث، فالشواهد كثيرة ولعل آخرها ما حدث من تمرد في روسيا من قبل مجموعة فاجنر على حكومة موسكو وهي شركة روسية خاصة لأعمال عسكرية ووظفتها الحكومة بمهام خارجية عديدة في إفريقيا وسوريا وأكبر عملياتها كانت في أوكرانيا حيث تدور حرب شنتها روسيا عليها منذ عام ونصف تقريباً وتلعب فاجنر دورا رئيسيا في العمليات القتالية فيها وأصبحت تمتلك خبرة واسعة وعدد أفرادها 25 ألفا وتتحصل على مليارات الدولارات من الحكومة الروسية مقابل أعمالها وبداية قد يتساءل البعض عن سبب اعتماد دولة كبرى عسكرياً وتمتلك جيشاً ضخماً على شركة عسكرية خاصة وأغلب الترجيحات تصب حول استخدام مثل هذه الأطراف لتقليل الخسائر بالجيش النظامي حفاظاً على الروح المعنوية وتقليل النفقات العسكرية بالإضافة للحد من أي تبعات سياسية في حال وقوع جرائم حيث تنأى الدول بنفسها عن تلك الأعمال وتحملها لجهات غير نظامية أي أنها تقوم بحروب بالوكالة عنها فالخسائر بالمنتمين لتلك الشركات لا يعرف عنها الكثير ولا حتى عن طبيعة المهمات التي تنفذها وبالمناسبة روسيا ليست أول من استخدم مثل هذه الشركات فأمريكا سبقتهم بذلك وتعتبر شركة بلاك ووتر من أشهر من نفذوا أعمالا قتالية بالعراق وفق تقارير لمنظمات عديدة فالدراسات تقدر عدد تلك الشركات عالمياًبالمئات فيما قدرت وزارة الخارجية الفرنسية عائدات تلك الشركات بالسنوات الماضية بحوالي 400 مليار دولار، ولكن بالعودة لتمرد فاجنر بروسيا فقد أظهرت الوقائع أن وزارة الدفاع الروسية توجهت لهم بدعوة للانضمام لوحداتها العسكرية ليصبح مقاتلوها من ضمن الجيش النظامي الروسي لكن قادة فاجنر رفضوا ذلك على مدى الشهور الماضية فالعائدات والمزايا التي يتحصلون عليها كبيرة وستختفي في حال إلغاء الشركة بينما كان واضحاً أن موسكو بدأت تشعر بأن هذه الشركة أصبحت تستقطب أعدادا كبيرة من المقاتلين وتزداد شعبية قائدها وإذا ما استمرت بهذا التوسع بحجمها فسيصبح لها نفوذ كبير ودور بارز في قرارات الحكومة بالسنوات القادمة مما سيحولها لدولة داخل الدولة فالأمثلة كثيرة في دول عديدة تركت لمثل هذه المليشيات الساحة لتتمدد مما جعلها بنهاية المطاف تتحكم بمصير وتوجهات وسياسات الدول التي نشطت بها وفي دولة مثل روسيا تعد أكبر قوة نووية بالعالم وثاني قوة عسكرية عالمياً بالاضافة لمساحتها الضخمة وثرواتها الطبيعية الهائلة وكونها عضو دائم بمجلس الأمن فإن عدم حسم ملف فاجنر مبكراً سيشكل خطراً ليس على روسيا فقط بل على العالم فيما لو تمكنت من لعب دور مستقبلي بتوجهات السياسة الروسية فهم مجرد أفراد اعتادوا على القتال وليس العمل السياسي ولا يمكن أن يصدر عنهم أي قرار جيد في شأن إدارة الدول لو تحكموا بمصيرها.
لكن اللافت هو ما طرح بالساحة الإعلامية وبوسائل التواصل تحديداً من قراءات حول ما حدث بروسيا فالغالبية ذهبت إلى أن ما حدث مجرد مسرحية حتى تكشف روسيا عن الخونة بصفوف جيشها ممن قد يدعموا هذا التمرد خصوصاً ممن يتولون مهام مرتبطة بالحرب في أوكرانيا بالاضافة لأي سياسي قد يبدي تأييداً لهم وذلك من باب تنظيف الجيش والحكومة منهم إضافة لاعتبار أن مثل هذه الحركة ستعطي املاً لقوات أوكرانيا بزيادة ضغطها بهجومها المضاد لتحرير أراضيها المحتلة من روسيا باعتبار أن الأخيرة ستكون مشغولة بملف داخلي مربك وبما أن التمرد انتهى خلال ساعات فإن معنويات الأوكرانيين ستحبط مجدداً بما ان ذلك مجرد خدعة بحسب من قرأوا ذلك وهم مشحونون بالعاطفة حول توجه روسيا بمحاربة الغرب عبر أوكرانيا فهم لا يريدون الظهور وكأنهم راهنوا على حصان خاسر أو أن ينتابهم شعور بأن الغرب تفوق على روسيا والتي قد لا يحبونها بطبيعة الحال ولكن ينطبق عليهم القول الشهير «ليس حباً بزيد ولكن كرهاً بعمْر» إلا أن النظرة المتجردة من العاطفة لا يمكن أن تنحاز إلى أن ما حدث مسرحية فروسيا غير مضطرة لأن تقدم على عمل يهز صورتها داخلياً وخارجياً فكيف لدولة عظمى عسكرياً واستخباراتياً ومن بين دول مجموعة العشرين لأكبر اقتصادات العالم أن يحدث بها تمرد وتقوم مجموعة صغيرة بعمل عسكري يستهدف استقرارها ويفتح الباب لمواجهات سينتج عنها حماما من الدماء ويربك المشهد الداخلي الذي يفترض أن يكون قوياً في ظل الحرب التي تخوضها في أوكرانيا والعقوبات الغربية التي تواجهها بالاضافة لتبعات ذلك اقتصادياً فقطاع الأعمال والمستثمرين المحليين والأجانب سيهربون من روسيا ولن يضخوا فيها أي استثمارات لأنهم سينظرون لها كدولة غير مستقرة وحكومتها تعاني من ضعف وبذلك فإن ما حدث هو واقع حقيقي لتمرد واختارت روسيا أن تواجهه بطريقة تمنع الانزلاق لمواجهات دامية تبعاتها سلبية بنسبة أكبر مما تحقق من التسوية التي تمت بواسطة من رئيس بيلاروسيا الحليف الأول لبوتين كما أن انهاء فاجنر حتى لو كان لذلك تبعات سلبية بصورة روسيا على المدى القصير أفضل من أن تترك وتكبر ويصعب إسقاطها إلا بثمن ضخم جداً مستقبلاً.
أمام روسيا مهمة كبيرة وهي أن تحمي أمنها القومي وإذا نجحت بتحقيق مطالبها فإن ذلك يؤسس لعودتها كقطب رئيسي بالعالم ويدعم صعود أقطاب جديدة تحد من الهيمنة الغربية التي أنتجت فوضى بالعالم ومحاولات لفرض ثقافتهم وتوجهاتهم التي لا تتفق مع ثقافة وعقائد الكثير من دول العالم لكن من المهم أن تكون قراءات أي أحداث تتسم بالواقعية وبعيداً عن الأهواء أو الأمنيات لأن ذلك لا ينتج تفاعل صحيح مع الأحداث ويبقي ثقافة المؤامرة سائدة ويصبح التحليل متجرد من المنطق ويغيب الوعي لدى المجتمعات التي تكثر بها قراءات عاطفية لما يدور بالعالم فموازين القوى معروفة والسياسات الدولية أصبحت واضحة لحد كبير ولا يمكن التقليل من شأن أي حدث والنظر له بسطحية وتوهمات زرعتها دعاية إعلامية أو ساقها محللون وفق أمنياتهم.