د. هيثم الصديان
يقال إنّ الأدب يقدّم مادّة مهمّة للمؤرّخ وللمفكّر وللمنظّر السياسيّ والاجتماعيّ؛ لأنّ نصوص الأدب، من شعر ورواية ومسرحيّة وقصص وحكايات، تضع بين أيادي الباحثين مادّة فيها من الدلالات السياسيّة والفكريّة والتاريخية والاجتماعيّة، وغيرها من شتّى أنواع الدلالات والإيحاءات، ما قد تعجز عن تقديمه النصوصُ التاريخيّة والسياسيّة والفكريّة الصريحة. بل إن الباحث فيها قد يجد حقائقَ تاريخيّةً وسياسيّةً لا يمكن أن يعثر عليها في النصوص الأخرى. وذلك لأنّ النصّ الأدبيّ يكون مشغولاً بالقيمة الأدبيّة، تهذيباً وتشذيباً واعتناءً، في حين تكون الدلالات الأخرى فيه خارج نطاق التحوير والتغيير.
لكنّ ثمّة سبباً آخر يجعل محتوى النصّ الأدبيّ أحياناً أهمّ لدى المؤرّخ والمفكّر والمنظر وعالم الاجتماع. لأنّ النصّ الأدبيّ قد يستطيع الغور إلى حقائق تعجز أمامها بقيّة الاختصاصات العلميّة من الوصول إليها. والأهمّ من هذا وذاك أنّ لغة الأدب أقدر على حمل الدلالة وعلى إيصالها وعلى تحقيق تأثيرها، قدرةً تفوق تأثير اللغة المباشرة؛ إذ إنّ كثيراً من الحقائق يصعب تصويرها على حقيقتها بغير لغة المجاز. وقد يتساءل متسائل عن سبب قصور اللغة الواضحة والمباشرة عن تصوير هكذا حقائق؟
والجواب يكون في أنّ ثمّة حقائق مجرّدة نحن لا نستطيع أن نراها، لكنّنا نشعر بأثرها ونجني عواقبها من غير أن يكون لها وجود تستطيع أن تدركه اللغة. فكما أنّ هناك أشياء معنويّة غير محسوسة لا تستطيع العين أنْ تدركها ولا آلات التصوير، ولا باقي الحواسّ الأخرى؛ فنلجأ إلى اللغة لنتعامل معها، كذلك ثمّة حقائق من نوع آخر لا تستطيع حتّى اللغة إدراكها وترجمتها لنا إلّا من خلال لغة المجاز التي تعتمد في ترجمتها عبر مرادفاتها من الموجودات التي يمكن للغة أن تدركها وتقدّمها. وهذا رأي مشهور بين فقهاء اللغة ونقّاد الأدب.
وما هذا التقديم الأدبيّ إلّا كي نصل بالقارئ إلى مغزى هذا المقال ومحوره. فما يحدث في سوريّة منذ أكثر من عقد، وما يحصل في واقعها وعلى أرضها اليوم، لا يمكن تصويره على حقيقته، ولا يمكن ترجمة دلالاته السياسيّة والفكريّة والاجتماعيّة إلّا من خلال لغة المجاز الأدبيّ. وذلك لأنّ المجاز يكون ابتعاداً باللغة عن موضعها الأوّل ودلالتها الحقيقيّة، حين تكون تلك الحقائق من البسيط المتيسّر فهمه وإدراكه. أمّا حين تكون الحقائق كما وصفنا أعلاه، فإنّ المجاز يكون ارتقاءً بالدلالة من صيغتها الأوّلية العاجزة عن حمل دلالات ذات حمولة رمزيّة عالية الحساسيّة وصعبة الإدراك. لذلك لا بدّ من لغة المجاز للتوافق مع رمزيّة الحمولة ومع عمليّات الذهن التي تستجيب لهذه الرموز؛ وعليه، سندخل إلى مأساة هذا القرن مباشرة، متوسّلين بالمجاز وطاقاته التعبيريّة والتصويريّة والإدراكيّة.
الحقيبة الخضراء بين
اللصوص والأطفال:
ثمّة اليوم في سوريّة العديد من القوى التي تتصارع على خيرات سوريا وعلى مكانتها الجيوسياسيّة، وأحياناً على قضايا تبعد عن سوريا مئات الآلاف من الأميال، لكنّ تضافرَ الظروف والحظّ العاثر وأشياء أخرى -أهمّها أخطاء أبنائها أو الفاعلين من أبنائها- على هذا البلد جعلته ساحة صراع ومحطّ أطماع وسباق. لكنّ هناك أربع قوى رئيسة في هذا الصراع؛ وهي روسيا وأمريكا وتركيا وإيران. وهذا وضعها مجازيّاً.
فلقد قيل الكثير في توصيف الوضع في سورية وفي تفسير ماهيّة الصراع على أرضها فالأمريكيّ والروسيّ، كلّ منهما أشبه بلصّ كبير في السنّ، يحاول أن يسرق شيئاً من حقيبة طفل صغير؛ فهو يمدُّ يده بحذر، ويسحبها كلّما خشيَ أن يبصرها الطفل. فهو وإن كان لا يأبه بالطفل، لكنّه يحترم أعراف اللصوصيّة. وإن كانت فرائسه لا تخشى من قوّة الطفل، لكنّها ترتعد وتخشى من خوف الطفل.
وأمّا الإيرانيّ والتركيّ، فكلّ منهما أشبه بطفل صغير، يعتقد أنّ كلّ حقيبة خضراء هي ملكٌ له ولأبيه، لمجرّد أن رأى صورة- قد أكل عليها الدهر وشرب- لأبيه، وهو تلميذ صغير، وعلى ظهره حقيبة خضراء. فهذا تسرح يده وتمرح في كلّ حقيبة خضراء تقع بين يديه.
أو يمكن أن تقول في الأخيرَينِ إنّهما أشبه بطفل رضيع، تتشابه عليه الأمّهات ما أن تدير له النساء ظهورها، كما تشابهت البقر على بني إسرائيل؛ فهو لا يعرف من الآخرينَ ولا يميزهم إلّا برؤوسهم. فهو يسرح ويمرح خلف أمّه، متمسّكاً بثوبها، لمجرّد أنّه لا يرى منها إلّا ردفيها.
وحالنا - السوريين- مع الأوَّلَيْنِ حالَ طفل لم يتنبّه أو تنبّه وجبن عن البكاء؛ والبكاء ليس حكراً على الأطفال والنساء كما يشاع في ثقافة الفحوليّين، بل هو أحياناً علامة على إباء الرجال عن الدنيّة، وتأذّي ذوي الكرامة منها؛ شرط أن يكون دمعاً لا عويلاً، فدموع الرجال غالية وهي أغلى حين تكون دليلَ أنفة وتعالٍ.
وحالنا مع الطفلين الثانيين حال طفل سائر في قافلة، لا يرى من الركب إلّا أرداف النساء.
وأمّا الشبه بين الأوّلين والثانيين، أنّ كلاهما يعيشان بطمأنينة حين يُدار لهما الظهر.
من وهم الحقيقة إلى حقيقة الوهم:
خلال العقد المنصرم زالت كثير من الأوهام التي كان يعتقدها بعض السوريين، حقائق وأمانيّ منشودة.
فلقد عاش الكرديّ على حلم القوميّة الكرديّة، وحين جاءه الكرديّ التركيّ (ما يعرف بأكراد جبال قنديل الذين جاؤوا وصاروا قادة عليه) تحوّلت هذه الحقيقة إلى وهم، واكتشف أنّ العربيَّ السوريَّ الذي يشاركه الوطن أقربُ إليه طبيعة ومزاجاً وثقافةً، في الوقت الذي كان فيه كثير من العرب يتوقون إلى التخلّص من سيطرة الميليشيّات الكرديّة، ويتوقون إلى تحريرهم على يد أبناء وطنهم وأهل عرقيّتهم من عرب المدن الأخرى المنخرطين في جيش المعارضة؛ فهم مثل ذاك الكرديّ - الواهم بالأمس- قد تبيّن لهم اليوم أنّ اختلافهم عن الكرديّ كان وهماً، تشاركتا كلتا مخيّلتي السوريَّينِ العربيّ والكرديّ في نسج خيوطه العنكبوتيّة الواهية.
وبالمقابل من ذلك كان كثير من العلويّينَ السوريّينَ يرَون الشّيعيّ، إيرانيّاً أو عراقيّاً، أقرب إليهم- وهو شعور راود العقل الجمعيّ عند كثير من أطياف المجتمع السوريّ- لكنّ عشر سنوات بيّنت لهم أنّ المسيحيّ الذي يشاركهم الحارة، أو السنّيّ الذي يجاورهم في البناية، هما أقرب إلى تكوينهم وعاداتهم وثقافتهم، وأنّهم يتشاركون من الثوابت الحيّة ما لا يمكن أن تلغيها بعض الاختلافات التي ظلّت تتغذّى وتنمو في المخيّلات مئات السنين، دون أن تصل إلى ما يمكّنها من مقوّمات العيش، خارج وهم المخيّلة، وهي أعجز من أن تدبَّ كياناً طبيعيّاً، يستطيع الانفصال عن رحمه، فلا يمكن أن يولدَ ويخرج إلى الحياة كائناً سليماً ويحتكّ بالثوابت ويواجهها.
وحين هبّت الفتن وهاجت المحن تمّت ولادة تلك الأوهام قيصريّاً، ليتبيّنَ لأصحابها وللسوريّينَ أجمعين أنّها محض أوهام، تموت مع خيوط الشّمس الأولى ومع استفاقة اليقظة التي تصاحب الفجر.
الخاتمة العربيّة:
ما سبق من توصيف وتشبيه مجازيّين ليس ضرباً من بلاغة أدبيّة جماليّة، وإنّما هي محاولة توصيف وترجمة لمأساة فاقت نتائجُها كلَّ خيالات الشعراء والروائيين. ولقد كُتبت مئات القصائد وعشرات الروايات وأكثر من ذلك من القصص، وكلّها تقف عاجزة عن بلوغ مستوى المأساة على أرض الواقع. نعم لقد كان هناك مخيالات جمعيّة لدى العديد من الجماعات السوريّة بتنوّعاتها الطائفيّة والمذهبيّة والعرقيّة. أسهمت هذه المخيالات في تكوين عقل جمعيّ عند كلّ طائفة من طوائفه وبعض تكويناته الاجتماعيّة والعرقيّة. وكان كلّ عقل جمعيّ يربّي في جماعته ذاكرةً محمّلة بأوهام من الخوف والمظلوميّة التاريخيّة، ثمّ يعود هذا العقل الجمعيّ بإعادة تأهيل المخيّلة بأوهام جديدة هي نتيجة طبيعيّة للأوهام الأولى، أوهام الخلاص والتحرّر المبني على تخيّلات طوباويّة تتمثّل في العرق أو الطائفة، وقد أشبعت هذه التخيّلات حتّى وصلت درجة نست فيها الثوابت الوطنيّة والمدنيّة الحضاريّة، وتغافلت عن حقائق الواقع الاجتماعيّ وتفاعلاته التشاركيّة التي تتجاوز الأطر الضيّقة المتوهّمة والمتمثّلة في أوهام من القرون الآنفة، من قبيل الحلول العرقيّة والطائفيّة.
أمام هذه التحدّيات الداخليّة والخارجيّة التي تواجه سوريا وشعبها الذي مزّقته صراعات وحروب وتهجير وتشريد، ما تزال أهوالها إلى اليوم جاثمة على صدر البلد والشعب، فكانت مأساة مزّقتهم لتبيّن لهم ضرورة وحدتهم وحقيقة وجودها وأحقّيتها, أمام كلّ هذا الواقع والمأساة يبدو أن هناك بادرة أمل، تظهر أمام السوريين الذين باتوا يتوقون لنهاية المأساة دون حول أو قوّة منهم، ويتطلّعون إلى مَن يمدّ لهم يد العون ويأخذ بيدهم إلى برّ الأمان، ويساعدهم على استعادة بلدهم حرّاً كريماً آمناً موحّداً، يبنونه يداً بيد.
نعم ثمّة بادرة عربيّة لاستعادة سوريّة ولإغاثة السوريّين، ولتخليصها وشعبها من براثن الصراعات والأطماع، ولتقديم الدعم اللازم الذي يقوّي مقوّمات اليقظة في وعي أبنائها وطوائفها وجماعاتها وأعراقها، والذي يزيل بقايا تلك الأوهام القروسطيّة المختزنة في المخيّلات والذاكرات. ونحن لا نعرف ما القادم وما هو القرار العربيّ. لكنّنا قد رأينا أوّل ظهوره في قمّة جدّة التي يقال بلاغيّاً: إنّما هي قمّة العرب.