الرياض - خاص بـ"الجزيرة":
مع تقدم العصر واشتغال الناس بالتقنية والانفتاح الظاهر بين الثقافات والبلدان، يشتكي بعض الآباء والمربين في المجتمع انفلاتًا ظاهرًا في أبنائهم من الشباب والفتيات لم يعهدوه من قبل أدّى إلى قلب المفاهيم والمبادئ، وثمة أمرٌ نغفل عنه كثيرًا قد يمنع الكثير من أبنائنا بإذن الله من هذه الأمور، ألا وهو التربية على الرقابة الذاتية منذ الصغر.
حول تلك القضية المهمة تحدث عدد من المختصين في العلوم الشرعية؛ فماذا قالوا؟.
الغرس منذ الصغر
يقول الدكتور عمر بن إبراهيم المحيميد الأستاذ المشارك بجامعة القصيم: الرَّقابة الذَّاتيَّة مُصطلح كثُر تداوله في الأزمِنة المتأخرة من قبل المربين والمختصين؛ ويقصد به: أن يراقب الواحد منا الله تعالى من تلقاء نفسه في كل شؤون حياته، فهو الرقيب سبحانه.
والسبب في شيوع هذا المصطلح أن الحاجَة أصبحت ماسَّة إلى العمل بمُقْتضاه في عصرنا الحاضر؛ لكثرةِ النَّوافِذ المُطلِّة بكل شيء، النَّوافِذ التي تبعثُ الغثّ والسَّمين، وتروجُ للصالح والطالح دون أدنى المعايير، وتنشره على أعيُن الصَّغير والكبير، وبشكل مجاني؛ مما يُحتِّم ضرورة تفعيل هذا السَّبب الناجع -الرَّقابة الذَّاتيَّة-، وذلك من أجل المحافظة على القيَم والمبادئ لدى جميع أفراد المجتمع؛ فأقوى الأسباب المؤدية لِتهاوي القِيَم وتساقطها هو كثرة التَّلقي دون فحص، دون الفحص التربوي والديني والمجتمعي، وربما كان هذا من الصعوبة بمكان في الوقت الحاضر؛ فقد تكاثرت التَّطبيقات النَّاشرة، وتسهَّلت الاستخدامات؛ مع كَثرة فراغ النَّاس وزادت إمكانية اختلائهم بأنفسهم، وضعُف العِلم، والإيمان الرادع؛ لذا كان لِزامًا أن نُفعِّل هذا السَّبب في أنفسنا أولًا، وفيمن حولنا ثانيًا من أولادٍ أو طلاب أو موظفين أو أصدقاء.
والرَّقابة الذَّاتية حصنٌ -بعد الله- من انغماس المُتلقي فيما ليس من هويته أو دينه أو مبادئ مجتمعه وقِيَمِه؛ مما يؤثر سلبًا عليه، وعلى مجتمعه، والرَّقابة الذَّاتية تجعلُ الإنسان ذا وجه واحد، صريح، واضح، وليس إنسانًا مُتعدد الوجوه؛ مما يؤثر على فكْرِه وثِقتِه بنفسِه وإنتاجيَّته.
ولِتنميَة الرَّقابة الذَّاتية سُبلٌ شتى، لعل من أهمَّها: الدعاء، وسؤال الله تعالى ذلك، ومنها: الغرسُ منذُ الصِّغر، وتعويد الصَّغير على مُراقبةِ الله؛ طمعًا في رضاه وخوفًا من عقوبته، وأن الله معه أينما يكون، ومنها: إعطاء الثِّقة الموزونة، فلا إفراط في الثِّقة ولا تفريط، بل متابعة دائمة، وحسن توجيه ورعاية.
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، ووفق وبارك في قيادتنا الرشيدة وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود -أيده الله ووفقه وحفظه-، وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود–أيده الله ووفقه وحفظه-.
أنجع الوسائل
ويشير الدكتور فهد بن سعد المقرن أستاذ العقيدة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية إلى أن من أعظم ما يميز المؤمن عن غيره مراقبة الله، فهو يفعل ويترك وفق استشعار رؤية الله له.
وهي من كمال الإيمان فكلما زاد إيمان العبد زادت مراقبته لله. قال تعالى:(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، وقال تعالى:(يَعْلَم خَائِنَة الْأَعْيُن وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ).
ما أحوج الآباء والأمهات إلى غرس هذا المعنى في قلوب الأبناء والبنات وتربيتهم على قول النبي صلى الله عليه وسلم في معنى الإحسان:(أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك). متفق عليه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: (اتق الله حيثما كنت). رواه الترمذي،
شبكات التواصل تعج بالفتن المتنوعة والرقابة عليهم في كثير من الأحايين لا تجدي، ولكن التربية على مراقبة الله مع الدعاء لهم من أنجع الوسائل في دفع طوفان الشبهات والشهوات، علموهم أن يستحضروا معية الله لهم في كل زمان أو مكان، وازرعوا في قلوبهم قول الله: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً). وقال تعالى:(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ).
ربوهم على مرتبة الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
الحصن الواقي
ويؤكد الدكتور صالح بن عبدالعزيز الغليقة أستاذ الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية على أن تربية الأولاد على الرقابة الذاتية من الصغر، وزرع مراقبة الله في نفوسهم أمر من الأهمية بمكان، فهو الحصن الواقي بإذن الله من الوقوع في المحرمات وإن غاب الرقيب البشري عن الأعين.
يحدثنا القرآن الكريم عن الموعظة العظيمة التي وعظ بها لقمان الحكيم ابنه، إذ أوصاه بوصايا عدة، كان من ضمنها ما يتعلق بزرع الرقابة الذاتية في الابن: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 16]، فهذا الخطاب من لقمان يقصد من ورائه إثارة وبعث الوازع النفسي في ابنه على مراقبة حدود الله، والوقوف عند زواجره والتزام أوامره، سواء أكانت هناك رقابة خارجية من البشر أم لم توجد، وسواء أكانت هناك أنظمة وقوانين مسنونة أم لم توجد ومن الملاحظ أنه لا نجاح بالكامل لأي نظام رقابي لم يراع تنمية الرقابة الذاتية وتعزيزها في أفراد المجتمع. فالرقيب البشري يغفل وينسى، وعندها يستطيع ضعيف النفس استغلال غفلة الرقيب، فيخرق عندها ويعمل المحظور ولن يردعه من ذلك إلا استحضار رقابة الله له، ويأتي خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس قائلًا له: «يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك.. الحديث» فالنبي صلى الله عليه وسلم يغرس في نفس ابن عمه الغلام الصغير مسألة الرقابة الذاتية من الصغر، إذ أرشده إلى ثمرة مراقبة الله وحفظه، وذلك بفعل أوامره واجتناب نواهيه، فالثمرة لهذه المحافظة والمراقبة هي حفظ الله للعبد على الدوام، قال تعالى:(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)[النحل: 97]وقيل: يحفظك في نفسك وأهلك ودنياك ودينك، لاسيما عند الموت؛ إذ الجزاء من جنس العمل.
((احفظ الله تجده تجاهك)) أي تجده أمامك؛ يدلك على كل خير، ويقربك إليه، ويهديك إليه، وأن تعمل بطاعته، ولا يراك في مخالفته، فإنك تجده في الشدائد، كما جرى للثلاثة الذين أصابهم المطر فأووا إلى غار، فانحدرت عليهم صخرة فانطبقت عليهم، فقالوا انظروا ما عملتم من الأعمال الصالحة، فاسألوا الله تعالى بها؛ فإنه ينجيكم، فذكر كل واحد منهم سابقة سبقت له مع ربه، فانفرجت عنهم الصخرة فخرجوا يمشون، وقصتهم مشهورة في الصحيحين.
فالحاصل أنه ينبغي للمربي أن يزرع الوازع الرقابي لدى الناشئة ويثبته منذ الطفولة، ويُهتم بتنميته وتوضيح معانيه، وأن يكرر ذلك عليهم ويتعهده في سن المراهقة. وستكون عاقبة هذه التربية جيلًا صالحًا صادقًا يراقب ربه مهما غفل رقيب البشر.