خالد بن حمد المالك
صحا العالم على تمرد عسكري كبير كان يتجه إلى موسكو في تحرك لم يكن متوقعاً، ولم يصدق المتابعون أن تمرد (فاغنر) قُصد به محاولة تصفية وزير الدفاع ورئيس الأركان، انتقاماً وفق ما قاله قائد مجموعة (فاغنر) من أن الجيش الروسي وجه ضربة قاتلة لعدد من أفراد (فاغنر) بأمرهما في أوكرانيا، بينما ذهب آخرون إلى أن الهدف الحقيقي كان الاستيلاء على السلطة في انقلاب يستهدف رئيس البلاد والحكومة الروسية، وإن نفى قائد (فاغنر) يفغيني بريغوجين أن يكون هدفه الإطاحة بالقيادة الروسية، إذ أكد على أن هدف العملية العسكرية لمرتزقته كان محاسبة المسؤولين عن الأخطاء في استهدافهم قواته في أوكرانيا، وحماية (فاغنر) من الإلغاء.
**
عولجت الأزمة بسرعة، وعلى نحو غير متوقع، فقد نجحت وساطة رئيس بيلاروسيا لوكاشينكو، فجنبت روسيا أزمة كانت ستلقي بظلالها على الحرب في أوكرانيا، وفي الداخل الروسي في فوضى وعدم استقرار، وكان ثمن هذه الوساطة إقصاء قائد هذا التنظيم الموازي للجيش إلى خارج البلاد، وتحديداً إلى بيلاروسيا، ومن لم يشارك بالتمرد من المجموعة سيتم ضمهم بعقود إلى الجيش، فيما يتم وضع خيار المغادرة إلى بيلاروسيا أمام البقية أو التقاعد، بما لا يجعل (فاغنر) تعود إلى ما كانت عليه وإلى مثل هذه المغامرة مرة أخرى.
**
الغرض من هذا المقال التأكيد على أن وجود تنظيمات عسكرية موازية للجيش في أي دولة، وتمتعها بصلاحيات كاملة ومفتوحة لممارسة دورها، سواء بالتنسيق مع الأنظمة، أو بفرض الأمر الواقع بحكم القوة العسكرية التي تتمتع بها، هي بمثابة قنبلة، بل مجموعة قنابل، جاهزة في أي لحظة للتفجير، بل إن وجودها إضعاف للجيش وقوى الأمن الرسميين في أي بلاد، وتهديد للسلم الوطني، وجعل أمن الدول في حالة من الخطر، طالما أنها تتمتع بالصلاحيات خارج القانون والنظام وسلطة الدولة.
**
خذوا الوضع في لبنان بوجود ميليشيا حزب الله الذي يتمتع بقدرات عسكرية تفوق ما لدى الجيش اللبناني، ولا أحد يستطيع أن يحد من صلاحيات الحزب، ومن هيمنته على القدرات المفصلية في الدولة اللبنانية، ومثله الحشد الشعبي في العراق، ومجموعة الدعم السريع في السودان، والحوثيون في اليمن، والمرتزقة في ليبيا وسوريا وغيرها، أي أن ما حدث في روسيا قد يتكرر في أي دولة يكون لديها مثل مجموعة (فاغنر) خاصة إذا كانت تتمتع بإمكانات عسكرية كبيرة، وتجد دعماً خارجياً أو داخلياً، في مقابل ضعف الدولة وعدم قدرتها في تحجيم نشاطها، واستمرار تصاعد قواتها العسكرية.
**
التنظيمات العسكرية خارج سلطة الدولة تتم أحياناً برضا الحكومات وبسبب دعمها، لتكون ذراعها في مقاومة أي تحرك للانقلاب عليها من طرف ثالث، لكنها مع أي اختلاف سيكون الحليف هو من يقوم بهذا الانقلاب، مثلما حدث حين انقلب الحوثيون على حليفهم علي عبدالله صالح وقتلوه، وكما يحدث الآن في السودان، وما حدث في روسيا، وما قد يحدث في لبنان إن لم يتم الاستجابة والرضوخ لطلبات حزب الله الذي كان قد احتل بيروت في فترة سابقة دون أن يتمكن الجيش من التصدي له.
**
ولعل أول من استفاد من الدرس روسيا نفسها، فقد أُقصي قائد ومؤسس (فاغنر) عن البلاد، ونُزعت منه الصلاحيات، وبدأ العمل على إلغاء هذا التنظيم بضم بعض عناصره بعقود إلى الجيش، فيما البعض الآخر إلى التقاعد، أو الإبعاد إلى بيلاروسيا، بل إن روسيا ذهبت إلى أكثر من ذلك، فقد داهمت ثلاثة مراكز في مواقع مختلفة للمجموعة في سوريا، واعتقلت ثلاثة من الضباط الكبار المنتمين له، كما تم اعتقال مندوب التجنيد، مع الاستيلاء على معدات وأسلحة المجموعة.
**
الوساطة، وقبول قائد مجموعة (فاغنر) بشروطها المريرة بما فيها عزله عن قيادة مرتزقة (فاغنر) وترحيله إلى بيلاروسيا في مقابل اسقاط تهم الجناية عنه، جنّب روسيا أزمة كبيرة كانت مفتوحة على احتمالات خطيرة، داخلية وخارجية، وينبغي أن يستفاد منها ضمن الدروس لتجنب الحروب والصراعات وعدم الاستقرار في أي دولة، وما لم يؤخذ بهذه الدروس، وتتجنب الدول هذه المزالق، وتبتعد عن الاجتهادات غير الموفقة في دعم مثل هذه التنظيمات، فإن اشتعال المعارك، وتكرار المؤامرات سوف تتواصل، والعاقل من استفاد منها، وأصلح شأنه.