د. تنيضب الفايدي
تشتهر مكة المكرمة بأودية وشعاب وهي كثيرة، ليس من السهل معرفتها كلها، ولذا قيل: «أهل مكة أدرى بشعابها»، والشعاب هي مجاري مائية صغيرة تمثل فروع للأودية وتكون في الأغلب ضيقة وصغيرة وقصيرة إذا ما قورنت بالأودية.
ووادي إبراهيم هو الوادي الرئيسي في منطقة الحرم المغذية لبئر زمزم، وهو المراد في قوله تعالى: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم} سورة إبراهيم الآية (37)، ويطلق عليه أحياناً وادي بكة، ويعدّ من أكبر الأودية حيث يشغل معظم أراضيها وأحيائها حيث تبلغ مساحة حوضه 37.5 كم2. أثر الوظيفة الدينية على استخدام الأرض في مكة المكرمة للكتبي (ص50)، زمزم طعام وشفاء سقم لـ: يحيى حمزة (ص92).
وأول استيطان بشري في هذا الوادي حسب القرآن الكريم هو ذرية إبراهيم عليه السلام، لذا سمي بوادي إبراهيم، ثم جاء وفد جرهم فسكنوا معهم بعد ما أذنوا من أم إسماعيل عليها السلام، وقد حمى الله سبحانه وتعالى الوفد الصغير من أهل إبراهيم من سطوة الجرهميين به أو استئثارهم بالماء دونه، بل قذف في قلوبهم إجلال الأم الضعيفة وطفلها وإحلالهما المنزلة الكريمة بينهم، والاعتراف لهما بحقهما في الماء المبارك. أخبار مكة للأزرقي (ص57).
واستجابةً لدعاء النبي إبراهيم عليه السلام فقد هيأ الله تعالى في هذا الوادي الخيرات بأنواعها، وجعل الكعبة الله بركة لعموم الخلق، بركة في الرزق، وبركة الأمن والاطمئنان.
ويمتد هذا الوادي من الشرائع شرقًا إلى الكعكية جنوباً مرورًا بالمسجد الحرام، يبدأ من شمال مكة حتى يصل إلى منطقة جبل حراء، ثم يعتدل غرباً عند منطقة العدل حيث يتفرع منه وادي فخ، ويستمر هو حتى يصطدم بجبل المعابدة، ثم يتجه جنوباً حتى يخترق الحرم، ويتجه إلى المسفلة ويستمر إلى جنوب مكة المكرمة.
والجدير بالذكر أن وادي إبراهيم كثير الشعاب والروافد، من أهمها: شعب الغسالة، الملاوى، الخانسة، ريع أذاخر، شعب عامر، شعب علي، أجياد السد وأجياد المصافي. ووادي طوى: وهو من أهم الروافد وأكبرها. وتنصرف إلى وادي إبراهيم مياه كل من ريع الحجون وريع الرسام وريع الحفائر وريع الكحل وريع أبو لهب. أودية مكة للبلادي (ص21).
ونظراً لكثرة شعاب وروافد وادي إبراهيم فإنه حالما تهطل الأمطار تسيل وتندفع مياهها بسرعة نحو الوادي وقد ينجم منها سيول عنيفة وفيضانات تشكل خطورة على المسجد الحرام الذي يقع في قلب هذا الوادي، ومن أجل تفادي خطورة هذه الفيضانات تم تحويل الجزء الأكبر من مياه أعلى الوادي إلى الوادي الزاهر. ومن الملاحظ أن الوادي يكون متسعاً في بدايته في المنبع عند منطقة الشرائع ثم يضيق جداً بين جبل النور وجبل ثبير ثم يتسع في الأبطح والعدل والروضة والمعايدة ثم يضيق مرة أخرى من الجميزة إلى ما بعد المسجد الحرام والمسفلة ثم يتسع في الكعكية ثم يضيق بعد مخطط السبهاني ويتسع في النهاية في سهل الشميسي وعرنه. البيئة الطبيعية لمكة المكرمة (ص107).
وكما قلت بأن وادي إبراهيم هو المقصود في الآية الكريمة (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم) وهو وادي مكة الرئيسي وبه تقع أحياء مكة القديمة.
وقد وصف أحد المؤرخين وصفاً جغرافياً من بدايته إلى نهايته وذكر روافده فقال: «يأخذ وادي إبراهيم سيله من حيث يسيل المحصب من منى، فإذا صار عند المنحنى -بقرب القصر الملكي العامر- سُمي الأبطح فيتجه غرباً إلى أن يصل إلى ريع الحجون (كداء) فيعدل جنوباً ويُسمى البطحاء إلى المسجد الحرام، أما العامة فتسمى الأبطح (الخريق) فإذا صار عند المسجد الحرام عدل إلى الجنوب الغربي فيمر السيل في نفق شق بين المسجد الحرام وبين جبل أبي قبيس، فإذا تجاوز المسجد الحرام سُمي (المسفَلة) إلى جبل الميثب، ومكة عموماً يُسمّى ما فوق المسجد الحرام المعلاة، وما بعده المسفلة. فإذا تجاوز الوادي جبل الميثَب التقى به وادي ذي طوى، فيعود إليه اسمه (وادي إبراهيم) ثم يعدل باتجاه الغرب إلى أن يصب في روضة تسمى أم الهشيم تقع جنوباً عدلاً من الحديبية بثلاثة عشر كيلاً، ولا يكاد يتجاوزها فإذا تجاوزها عدل جنوباً حتى يصب في وادي (عرنة) ماراً بالمنصورة، ثم تحدث عن روافده». أودية مكة المكرمة للبلادي (ص20).
وصفه الإسحاقي بالوادي المقدس، وعلق متعجباً من استيعابه الأعداد الكبيرة في موسم الحج (رحلة الإسحاقي ص247): «ومكة شرفها الله بلدة قد وضعها الله بين جبال محدقة بها، وهي بطن واد مقدس كبير مستطيلة، تسع من الخلائق عدداً لا يحصيه إلا الله -عز وجل-، قال ابن جبير الغرناطي بعدما ذكر كثرة ما يجتمع بها من الركاب الوافدة إليها من ساير الآفاق في أيام الموسم كلها ما نصه: «فمن الآيات البيّنات أن يسع الجمع العظيم هذا البلد الأمين الذي هو بطن وادٍ سعتُه غلوة أو دونها، ولو أن المدن العظيمة حمل عليها هذا الجمع لضاقت عنه، وما هذه البلدة المكرمة فيما تختص به من الآيات البينات في اتساعها لهذا البشر المعجز إحصاؤه إلا كما شبهها العلماء حقيقة في أنها تتسع لوفودها اتساع الرحم لمولودها، وكذلك عرفات وساير المشاهد العظيمة بهذا البلد الحرام، عظم الله حرمته ورزقنا الرحمة فيه بكرمه وفضله».