د. عبدالحق عزوزي
من تتبع كتابات جل المنظرين التنمويين اليوم، سيرى أنهم يدعون إلى ضرورة إصلاح بعض مظاهر الخلل الهيكلي في بعض الاقتصادات من خلال تخفيض النفقات وقيام دولها بوضع خطط اقتصادية شاملة قصيرة الأجل وطويلة الأجل، بهدف توجيه اقتصاداتها إلى أنشطة تساعد على تنويع مصادر دخلها القومي وتعددها والإسراع في جهود التنمية المستدامة.. كما أنهم يدعون، وهذا هو الأهم، إلى ضرورة الاستثمار في العامل البشري؛ إذ بدونه تضيع مصالح الشعوب والأجيال. فدول كالهند واليابان وكوريا الجنوبية التي لا تملك أي موارد طبيعية استثمرت في المورد البشري فأصبحت دولاً متقدمة وأصبح البحث العلمي فيها متطوراً وغدت دولاً يضرب بها المثل.... فمن مسؤولية الجميع اليوم في الوطن العربي الاستثمار في العقول والإقدام على اتخاذ قرارات شجاعة لتحقيق الملاءمة بين التكوين العلمي والمهني والتقني وبين مستلزمات الاقتصاد العصري.
ومن هذا المنطلق، فكل من يتابع أنشطة بعض الجامعات مثل الجامعة الأورومتوسطية بفاس، لا يسعه إلا أن يعبر عن إعجابه لما تحقق في ظرف قياسي في مؤسسة تكوينية وبحثية تسعى لتكون صلة وصل بين ضفتي المتوسط وإفريقيا بل والعالم، وقاطرة تنموية للمنطقة ويكون لها مكانة في مصاف الجامعات الدولية الكبرى، خاصة وأن الجامعة تملك اتفاقيات جادة مع كبريات الشركات والجامعات والمؤسسات...
وتقوم الجامعة على تنمية المهارات والعلم والبحث والتنمية والابتكار، وهي المفتاح الذي يمكن أن يسمح لكل الجامعات العربية بفرص ربح معركة التنافسية، وبالتالي معركة العولمة؛ ويتطلب التحدي من هذا النوع اعتماد نظام تعليمي قوي وذي جودة، كما يتطلب رؤية واضحة في مجال التنمية التكنولوجية، وهذا هو الأساس لتحقيق الرفع من مستوى التنمية في بلداننا؛ فرهان المستقبل قائم على الاستثمار في مجالات استراتيجية وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي؛ ونحن في بلداننا العربية يجب أن نطرح سريعاً مسألة التخصصات ووظائف المستقبل في ظل التحولات المتسارعة وغير المسبوقة التي أفرزتها الثورة الصناعية الرابعة وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وهي التي تثير بدورها العديد من التساؤلات حول مستقبل منظومة التعليم وعلاقتها بوظائف المستقبل، وخاصة في ظل الدراسات التي تتوقع أن تحلّ الروبوتات والأجهزة الذكية مكان الإنسان في الكثير من مجالات الحياة والوظائف في السنوات المقبلة.
إن الاستثمار في الإنسان هو السبيل الأمثل لتحقيق التنمية الاقتصادية وبناء الأوطان... فالشعوب لا تتطور إلا بالاستثمار في الإنسان، والاستثمار في الإنسان يعني إيجاد أرضيات صلبة لتعليم وتغذية عقول الأجيال بالعلم الصحيح والقواعد المتينة التي تبني وتطور، وبإعداد مدارس القرن الثاني والعشرين وجامعات القرن الثالث والعشرين، والابتعاد عن الأدوات والمناهج الخاطئة التي استعملتها بعض الدول العربية منذ أزيد من ستة عقود ولم تؤت أكلها ولن تؤتي أكلها مادامت هناك نفس المسببات ونفس العقليات؛ فالمطلوب من المرحلة كما كتبنا ذلك مراراً هو نوع من الزلزال الناعم الذي أسميه «بالدمار الخلاق» والاستغناء عن البذلة المرقعة القديمة وخياطة بذلة جديدة تعفي الجميع من كل مساوئ الأولى؛ وهذا يجب أن يطال الاقتصاد والتربية والتعليم والمؤسسات والوظائف والنفقات العمومية والعقليات... فالاستثمار في الإنسان هو الذي يمكن من تطور الإنسانية وخدمة المجتمع، وتفادي المعيقات التي تمنع من تحقيق مستقبل أفضل وبلورة الحلول لعيش أرغد؛ فمن لم يستثمر اليوم وليس غداً في الإنسان فلن يتمكن من الاستثمار في الذكاء الاصطناعي وسيفقد تواجده الريادي في ساحة الدول المؤثرة والمتقدمة في المستقبل...
نقول دائماً لطلبتنا في الجامعات إن غرض كل علم كيفما كان نوعه هو تنمية المجتمع، فمهمة الباحث الأولى هي كيف يمكن أن يدلي بدلوه في تحقيق التنمية والنماء داخل المجتمع؛ ونجد في الولايات المتحدة الأمريكية خلافاً لأوروبا والقارات الأخرى، أن هذا التواصل بين الباحث والمجتمع هو تواصل الروح بالجسد وتصرف عليه الملايين من الدولارات، كما أن عملية تنقيط الأساتذة والزيادة في رواتبهم تتم أكثرها من خلال تقييم اللجان الدقيقة في مدى مساهمة الأستاذ الجامعي ليس فقط في عمليات التلقين والتدريس ولكن في عمليات البحث والتأليف، وليس كل التأليف ولكن تلك التي لها صلة مباشرة في التأثير على المجتمع، وعيدكم مبارك سعيد.