خالد محمد الدوس
قال الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (سورة الرحمن: 26 - 27).
بقلوب مفعمة بالحزن والأسى انتقلت إلى رحمة الله تعالى يوم الأربعاء الموافق 25-11-1444هـ المرأة الصالحة وأم الحنان والإحسان (لطيفة بنت عبدالعزيز عبدالله العتيبي) حرم الخال الفاضل محمد بن عبد الرحمن الموينع بعد معاناتها المرضية تغمدها الله بواسع رحمته.. والحقيقة أن القلم يعجز عن التعبير, واللسان عن الكلام، وأن القلب ليحزن والعين تدمع ولا نقول إلا ما يرضي الله -عز وجل- الحمد الله على قضائه وقدره.
من سنن الله -عز وجل- أن هذه الحياة لا تدوم ولا تصفو لأحد مهما كان، فلا بد من الرحيل ومغادرة هذه الدنيا الفانية لقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) (سورة آل عمران: 57)، منهم من يرحل ويرحل معه ذكره, ومنهم من يرحل جسداً وتبقى سيرتهم النيرة حاضرة في قلوب محبيه بنقاء سريرتهم وحُسن أخلاقهم وأعمالهم الصالحة.. ووالدتنا (أم خالد) رحلت جسداً وبقيت سيرتها محفوظة في القلوب وراسخة في الوجدان. ولا غرابة من ذلك فسيرة (فقيدتنا الغالية) تمثل جسراً كبيراً في فهم طبيعة المرأة السعودية في (الماضي الجميل) نساء عابدات.. صالحات.. تقيات.. عفيفات.. يخفن الله في السر والعلن.. وفي جوانب حياة (أم خالد) غفر الله لها تلك الروح الكبيرة والقلب المنيب, وجمال التقوى والصلاح التي كانت تتمتع بها -رحمها الله- مع حزمها وتدينها، وهي روح الدعابة وزرع الابتسامة لمن حولها وتضفي على زوارها ومحبيها شيئاً من الفرح والسرور التي تدخل القلب بعفوية ونقاء السريرة.. وجمال تلك الدعابة والطُرف عن حياة الأولين التي ترويها حين نزور بيت (الخال محمد) -أمد الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية- وتحديداً عن حياة أمي الراحلة نورة الموينع -رحمها الله- وعن نساء زمان وبساطة وعفوية حياتهن الاجتماعية, ولذلك كان حتى الصغار والأحفاد يفرحون عندما يلتفون حول (جدتهم), يشبعون عواطفهم ويعيشون أجواءً فرائحية قبل أن يغلق هذا (الباب) برحيلها بعد حياة امتدت قرابة الـ (80 سنة) كانت عامرة بالطاعات والعبادات والأعمال الجليلة.
نشأت فقيدتنا الغالية (أم خالد) في كنف والدها الشيخ عبد العزيز بن عبد الله العتيبي -رحمه الله- بعد أن فقدت والدتها الراحلة (طرفة الرملي) -رحمها الله- وهي في طفولتها غير أن والدها -رحمه الله- ربّاها التربية الدينية الحميدة وأحسن تنشئتها التنشئة الاجتماعية السليمة التي انعكست على قيمها الإيمانية الصادقة ومنهج حياتها التربوي والديني القويم.. فكانت -رحمها الله- مدرسة من الإحسان وحُب الخير والعطف والحنان.. بقلبها الكبير الذي احتوى الجميع من الأقارب والأحباب, وحتى الجيران الذين كانت تحرص على التواصل معهم وتؤّلف بينهم, وتتفقد أحوال المحتاجين منهم.
أتذكر كان الوالد -رحمه الله- يزور بيت (الخال محمد) وكانت فقيدتنا الغالية تقدره كثيراً وتقدر أبناءه خاصة بعد وفاة والدتي (نورة الموينع) -رحمها الله- وأنا في شهري السادس.. فكانت أم خالد (أمّاً) لي بإحسانها ومشاعرها الفياضة خاصة وأن والدتي -رحمها الله- كانت تربطها مع فقيدتنا (أم خالد) علاقة متأصلة في عمق المحبة والمودة والتواصل حتى أنها حزنت كثيراً على رحيل والدتي في عز شبابها (34 سنة).. وقد تركت بين سوار هذه الحياة «ثمانية أطفال» أصغرهم (كاتب السطور) لم يتجاوز عمره ستة أشهر.., وكما يروي ابنها (الأخ خالد الموينع) أنها كانت سبّاقة في البذل والإنفاق والحرص على الصدقة في الخفاء, والتواصل مع الجيران.. تحب الجميع صغاراً وكباراً تشارك الأمهات همومهن وأحزانهن وتتفقد أحوال المحتاجين منهن كما تحث أبناءها على صلة الرحم والتواصل مع الأقارب فكانت -رحمها الله- الأم الحنون لأفراد العائلة والمحيط القرابي بقلبها الكبير الذي كان يتسع الجميع.
نعم كانت (الراحلة) كريمة.. سخية.. متواضعة أحبها كل من عرفها عن قرب، سواء داخل نسيجنا العائلي أو خارج محيطنا القرابي غير أن رحيلها ترك في القلب لوعة، وفي النفس حسرة، وفي نبرات الصوت غصة.. وعزاؤنا في لوعة الفراق وألم الرحيل أن (فقيدتنا الغالية) كانت امرأة صالحة (صبرت) على مرضها طويلاً ومع شدة السقم والمرض والابتلاء كانت مدرسة من الصبر والاحتساب والإيمان لقضاء الله وقدره؛ لم تفارقها الابتسامة عندما يزورها الأبناء والأقارب وكل من أحب هذه المرأة الصالحة.. ولأن الإيمان كما يقول الإمام (ابن القيم) -رحمه الله- نصفان.. نصف شكر ونصف صبر، فقد كانت كثيرة الشكر والحمد في كل حال.. ومتمسكة بحبل الصبر المتين بالذات مع بداية دخول المرض جسدها الطاهر قبل قرابة العامين.. وبعد أن تمكن المرض منها ودخولها للغيبوبة في أيامها الأخيرة.. كانت ومن نعمة الله وفضله عندما تفيق للحظات تذكر فيها الله وتستغفر وتكثر من الحمد، وقلبها الكبير التقي.. النقي كان معلقاً بالصلاة كما يروي لي ابن الخال (خالد الموينع).. إنها قلوب عظيمة ونفوس كبيرة تعلقت بحب الصلاة.. والصلاة معراج المؤمنين وهي الصلة بين العبد وربه.
أسأل العلي القدير أن يجعل ما أصابها تكفيراً للخطايا، وتمحيصاً للذنوب، ورفعة لدرجاتها.. اللهم إن والدتنا (لطيفة) في جوارك فأكرمها بكرمك, وأرحمها برحمتك.. فأنت الكريم.. الرحمن.. المنان.. الرحيم.. وأخيراً نقول: إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك.. يا أم الحنان والإحسان, لمحزونون.. ولا نقول إلا ما يرضي ربنا العظيم.. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.