خالد الغيلاني
المقدس وغير المقدس
سؤال يطرح كثيراً ما هو المقدس؟ ومن هو الأحق به؟ ومن أين أتى؟ ولا ينفك (الدور) عندئذ أني وغيري سلسلة من التصورات نشأت من معاجم التجربة الخاصة. فالقداسة كالواحدية فقد تختلف التعابير عنها وتتعدد الصيغ في الإشارة إليها، ولكنها كالواحدية هاجس كل أحد، وهي تشير إلى وجود مقدس أعلى، فالاحترام الذي يريده الناس لأشخاصهم وأفكارهم والحريات التي يضج العالم حول تقريرها هي تقرير ضمني بقداسة هي من حق كل فرد، وهي تشير لما هو أعلى، وأن هناك مقدساً أعلى نحن مطالبون نحوه بإظهار الاحترام لقدسيته جل وعلا، ولو جئنا للنقد كمظهر للتضادات فيمكننا أن نجدها في الزوجة أو الأبناء أو الأقارب، فهم يتقمصون صورة التضاد في أبسط صورها ولذلك وجدت عبارة (زامر الحي لا يطرب) وهذا ابن حزم يقول:
أنا الشمس في جو العلوم منيرة
ولكن عيبي أن مطلعي الغربُ
ولو أنني من جانب الشرق طالع
لجد على ما ضاع من ذكري النهبُ
فالمحيطون بظاهرة إنسانية ما يميلون ميلة (ما) للمغاير له، ويبقى نوع من العلاقة مضافة إلى بند يؤسس الضدية بعمق.. لذلك كان المسلك العرفاني إلى الله مضطرباً جداً، قلقاً كل القلق، لا يستمسك منه على ثابت أنه هو هذا ولا غيره، حتى يظل المنشود غيباً عالياً جداً؛ لأن من طبع البشر أن العادة أو الثبات على حال واحدة أو الانكشاف التام يعني الانصراف والملل، وهذه مقتضيات التعود ورفع الكلفة، ومن هذا وقع في أهل التعبد بالجمال من الزلل الشيء الكثير جداً، ومن التقول على الله بما لا ينبغي له؛ لذلك جاء الحديث (المتحابون بجلالي) ولم يقل بجمالي، فالله جل وعلا كما وصف نفسه (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) كل ذلك في هذا الباب وكما يفهم من غيره من الآيات.
فهل الله يريد لنا الخلاف حقاً؟ فنحن نقرأ آية (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) وعليك أن تقرنها بكلمة متداولة فقهياً بكثرة وهي (الخلاف رحمة) وآيات تؤسس للاختلاف.
فالتضاد والتعددية مشروعان، مع أن الله واحد فلماذا لم يضعهم في قالب أحدي؟ ونقرأ أيضًا آية (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) فالاختلاف مقصد كوني عظيم جداً.
الاختلاف والوحدة
عندما دعا الله عباده إلى وحدة معينة كان هناك أنواع من الاختلافات يندرج تحتها، فما هي الوحدة المقصودة للشارع؟ فهل الاختلاف وحدة، والوحدة اختلاف؟ فالمؤمنون إخوة كما تقرر الآية، والأنبياء إخوة لعلات دينهم، واحد وأمهاتهم شتى،كما ينص الحديث، وهنا يقول دينهم واحد وأمهاتهم شتى، فجمع بين الواحد وبين الشتائتية. فالوحدة والاختلاف معاً جنباً إلى جنب، وهناك أنبياء اختلفوا مع بعضهم،فموسى وآدم تنازعا،وعيسى ويحي وموسى وهارون كان بينهما قضية خلافية، وكذلك موسى والخضر، وإبراهيم والملائكة، والملأ الأعلى اختصم أيضاً كما ذكرت الآية، والله الأعز الأجل اختلف معه إبليس، لكن هذا الاختلاف أدخله في دائرة المقت واللعنة والله مع ذلك يخبرنا {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} والمجادلة اختلاف لا اتفاق قطعاً، ومع ذلك قرره الله، فالله قد ترك مساحة للاختلاف المبني على حق، والحق هنا واحد، أما إبليس فاختلافه كان مع الله، لا لذات الحق، بل على خدش الواحد الصحيح في كبريائه، وهذا ما لا يرضاه الله لكبريائه العظيم أن يمس، ولا لهيبة الواحد أن يقلل من قدرها. والذي أذهب إليه، أن أبليس كان يطمع إلى علو مقارن لعلو الله أو لتقمص الواحدية الخاصة بالإله الواحد؛ لذلك قال الله (فما يكون لك أن تتكبر فيها)؛ لذلك جاء التحذير من الكبر لأنه تقمص لمعنى إلهي، وكذلك اليهود في المدينة لم تكن قضيتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم بل مع الله؛ لأنهم أتوا إلى المدينة ينتظرون نبياً، ولكن كانوا يريدون نبياً يصنعونه هم ولا يصنعهم، أي أنهم يريدون أن يضيفوا للواحدية معنىً جديداً أو يشكلوها من عند أنفسهم، أو يقللوا منها؛ لذلك جاءت الآية {وَأَنْ لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ }.
فالاختلاف يجعلنا نفهم شيئا آخر وهو الحدود، ولذلك تروج عبارة حدود المقبول والمرفوض، وحدود الاختلاف وكثير من المتدينين لا يعون حدود الدين وحدود العقل وحدود (الأنا) كأي واعظ صوتي لفظي تجد عنده بداوة نفسية ودويًّا مسلكيًّا في توجيه الفكرة أو ما يسمى بالاضطراب العقلي (الانفصام) واضحا بشدة.
وكما قلت مع الدعوى للوحدة في الدين فإن في داخلها اختلافاً كثيراً فالصحابة كطبقة واحدة مثلاً بينها اختلاف كثير في المقام والعلم والدرجة، وهم مع ذلك طبقة في نفسها، والمسلمون (الأمة) طبقة واحدة وبينها اختلافات كثيرة ومشارب، وكل شيء له وحدة فداخله اختلاف، حتى أن الإنسان نفسه ككتلة جسدية أو مفهوم داخله اختلاف فيزيائي وبدني وعقلي، ويدور في خضم معترك مغلف بكينونة واحدة. فالوحدة هي الوجهة التعريفية المقابلة للاختلاف، فالنزوع نحو الاختلاف في الحقيقة هو نزوع للوحدة، والنزوع للوحدة هو نزوع للاختلاف، فالاتفاق كل الاتفاق هو في الاختلاف، ولكن الاختلاف الذي يؤسس للواحد لأن كلاً منا مظهر للواحد، فتتعدد المظاهر التي تنبئ عن عظمة كبيرة جداً مطلب للخالق العظيم، لذلك كان الاتفاق على نسخة كربونية واحدة ليس فيها تعظيم، لأننا نعلم أن التعدد هو عنوان العظمة، وأن قلة الصفات تدل على نقص في الموصوف، لذلك جاء في الحديث في أسمائه (أو استأثرت به في علم الغيب عندك) ولا جلال لاسم إلا بصفة لذلك كان الواحد يعني أنه واحد مطلق في كل شيء. فالطلاقة والواحدية يخرجان من مشكاة واحدة، ولذلك عندما تدعو لوحدة في مكان أو أي جهة أو فكرة فستجد أنها تنطوي على اختلاف، ولكن هذا الاختلاف معتبر عندما يكون في نسق الواحد لا خارجاً عنه.