د.عارف أبوحاتم
منذ باشرت العمل في السفارة اليمنية في الرياض قبل عدة سنوات حتى اليوم لم أجد يمنياً واحداً جاء شاكياً من سوء معاملة كفيله السعودي، أو تعنّت أحد من رجال الدولة السعودية معه، لا أحد اشتكى من ضرب أو إهانة أو عنصرية أو اضطهاد أو جور لحقه أو لحق أحداً من أهله، فهناك قوانين صارمة لا أحد فوقها؛ مواطن أو مقيم.
ولا يمر يوم واحد دون أن يراجع السفارة ما لا يقل عن خمسة أشخاص مقيمين بصورة نظامية ويريدون المغادرة دون دفع المقابل المالي، ويتم الرفع بأسمائهم إلى وزارة الموارد البشرية ليتواصلوا مع كفلائهم والتأكد من رغبة الكفيل في مغادرة مكفوله، وأنه ليس عليه عهدة أو مديونية، ووالله لم يحدث لمرة واحدة أن اعترض كفيل سعودي على مغادرة مكفوله اليمني، بل مرت حالات كثيرة جداً يتكفَّل فيها الكفيل بتكاليف السفر، ومصاريف الطريق.
قد يشتكي أحدهم من قسوة القانون لكن هذه طبيعة القوانين في كل بلدان العالم، لا يوجد قانون يسهل للناس المخالفة والفوضى، فالقانون هو الآلة الحادة التي تقف فوق رؤوس الجميع من قفز عليه لن يضر إلا رأسه، وسكان المملكة بحسب الإحصاءات الأخيرة 20 مليون مواطن و13 مليون مقيم أجنبي، ولا أعتقد أن دولة ستقبل أن يكون 41 % من سكانها أجانب ينتمون إلى أكثر من 100 جنسية، دون قوانين صارمة تحفظ للدولة هيبتها، وللمواطن والمقيم حقوقهما، فالمواطن هو ابن الأرض وصاحب الحق ويريد أن يكون له الأولية في كل شيء، والمقيم جاء يبحث عن المال والراحة، ليبني غداً مستقبله في موطنه الأصلي، وبالتالي لا بد من يد ضاربة وصارمة تحفظ لكل حقه.
وشهادة خالصة لله أنى لم أجد في حياتي كلها أنقى وأصدق وأطيب وأكرم وأوفى وأنبل من الشعب السعودي، أما في تدينه وخيريّته فيكاد يتفرّد بهذه الميزة عن كل شعوب الأرض، ومن رأى في رأيي مبالغة عليه أن يتذكر أن في المملكة العربية السعودية 13 مليون أجنبي، لم أجد بينهم واحداً فقط قد اشتكى من نهب كفيل لماله أو مصادرة حقه أو غمطه أو ضغط عليه لامتلاك نسبة من ماله.
شهادة لا تنفي وجود مظالم، ولم يقل أحد إن في السعودية «ملائكة مطهرون»، بل هم بشر ممن خلق الله، ومنهم من يخطئ ويظلم ويتجاوز بحقوق الغير وتلك طبيعة النفس البشرية، التي لا يقومها إيمان ولا يردعها وازع ولا يردها خُلق، ولكني بنيت شهادتي على قاعدة الغالب الأعم، وفي حدود ما أعلم، وما سألقى عليه الله، {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ}.
ثمة عشرات القصص محشورة في رأسي ليمنيين وأجانب في مواقف إنسانية نقية حدثت لهم مع سعوديين، منها قصة شاب يمني أراد المستشفى منه 95 ألف ريال مقابل ولادة زوجته ووضع الطفل في الحضانة 45 يوماً، وبمجرد نشر أحدهم لقصته، لم تمر غير ساعات حتى اتصل به أحدهم يطلب لقياه في المستشفى، حضر وسدد كامل المبلغ ووضع خمسة آلاف بيد الأب هدية للطفل، ولم يضف غير كلمة واحدة أمام دموع الأب من مفاجأة الموقف: إذا تذكرتني فاذكرني بدعوة في الغيب!
من عرفوا المملكة وزاروها وعرفوا الخير فيها وفي أهلها وتسابقهم في الخيرات، سيعرفون تماماً ما أقول، ولذا لا غرابة أن تجد 13 مليون مقيم، قدموا من 100 دولة قد بنوا في أوطانهم وعمروها، لأنهم وجدوا في المملكة أرزاقهم وعافيتهم وراحة بالهم.. لم تتنزل بركة الرحمن على هذا البلد فقط من ذكاء أو حصافة، بل من طيبة أهلها، وتسامحهم، وصدقهم مع الناس، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ}.
نحن اليمنيين لنا في المملكة قربى وأنساب وأحباب على كل المستويات، فهذا بيتنا الكبير، وبلدنا الثاني، من المواطنين، وكثير ما التبس عليّ التفريق بين اليمني والسعودي، فالملبس واللهجة وسحنة الوجه متطابقة، حتى رجال الدولة السعودية لا يستطيعون التفريق بين اليمني والسعودي إلا بكرت الهوية.
وأضيف شيئاً مهماً، ويجب أن أقوله اليوم قبل الغد، وهو كَرَمَ رجال الدولة السعوديين مع أهلهم اليمنيين، ولو أنهم تشددوا في تطبيق القوانين ضد كل مخالف يمني، لذقنا المر والهوان، لكنهم يقدرون أهلهم اليمنيين، ووضع بلادهم الراهن.. ومرة أخرى أقول لمن رأى في قولي مبالغة، عليه أن يجيب عن سؤالي: هل يوجد في العالم دولة واحدة تقبل أجنبياً واحداً يعمل في أرضها وهو مجهول الهوية؟!
قطعاً لا.. لكن في المملكة الوضع مختلف، اليوم فيها أكثر من مائتي ألف يمني يعملون بهويات مجهولة، وبدلاً من أن تلاحقهم سطوة القانون، امتدت إليهم مكرمة والدهم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله - وقال امنحوا كل يمني مجهول «هوية زائر» فهو ضيفي أنا، واسمحوا له بالعمل بموجب هذه الهوية، لتليها مكرمة أخرى، وهي السماح لحامل هوية زائر بتحويلها إلى إقامة نظامية وهو قائم على رأس عمله دون الحاجة إلى مغادرة البلاد والعودة بفيزا نظامية.
ولكم أن تتخيلوا أن قرابة نصف مليون يمني حصلوا على جوازات لأول مرة، خلال ستة شهور فقط العام 2016، ولكم مراجعة فيديوهات الازدحام بقنصلية جدة على موقع يوتيوب، أما في الرياض فقد تكرَّم الأشقاء في المملكة بتخصيص مكان فسيح في جامعة الأميرة نورة لاستيعاب اليمنيين المجهولين ومنحهم جوازاتهم الوطنية.
ولكم أن تتخيلوا أن في مدارس المملكة أكثر من 300 ألف طالب يمني يدرسون مجاناً، وأكثر من 20 ألف طالب يمني في الجامعات السعودية يدرسون مجاناً، وفي مستشفيات المملكة آلاف المرضى يتعالجون مجاناً، وعشرات آلاف الفيز شهرياً لليمنيين عبر السفارة السعودية في اليمن، ومركز الملك سلمان للإغاثة وصل خيره إلى كل محافظة يمنية، وبرنامج إعادة إعمار اليمن بقيادة السفير الإنسان محمد سعيد آل جابر لم يقف يوماً عن مداواة جراح اليمن، مدارس، مستشفيات، طرقات، كهرباء، مياه، آبار، وغيرها، وبرنامج مسام انتزع 400 ألف لغم حوثي منذ بداية الحرب حتى اليوم.
كنت أود أن أكتب عن التحولات الكبيرة التي يقودها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وكيف حجز لأمته مكانة كبيرة بين الأمم، خلال السنوات الخمس الماضية، لكني لم أفعل لسببين: لأني لا أريد أن أحمل المقال شيئاً خارج سياقاته، ولأن التحولات التي تشهدها السعودية لا يتسع لها مقال ولا عشرة، وسأتفرَّغ للكتابة عنها يوماً ما.
هذه شهادة يقرؤها الناس اليوم، وسأقرؤها أنا غداً أمام ملك الملوك.. كتبتها وتمنيت ألا أنشرها، وأنا مقيم في المملكة حتى لا يُجَرّح في شهادتي أحد، لكن السعار ضد المملكة زاد، والمتكالبين عليها كثروا وكان واجباً ولزاماً عليّ أن أقول ما أدين لله به.
**
* المستشار الإعلامي في السفارة اليمنية في الرياض