منال الخميسي
أولى خطواتك على هذه الأرض كانت على أطراف أصابعك، لحظات تلمس فيها هذا السطح الذي كنت تمتلكه وتعرفه جيداً وأنت تحبو لكن الوضع الآن تغير. أنت غير واثق من وضع كامل قدميك لتقف وتمشي, قد يأخذ بعضنا يوماً أو يومين وأكثر كي يقف بقوته، يقاوم الحبو ويكرهه ومن ثم تكون سعادته الكبرى في بداية خطواته نحو اقتحام الحياة واكتشاف كل ما كان مجهولاً قبل ذلك.
البعض الآخر يظل حذراً ينظر حوله بل من الممكن أن يبكي باحثاً عن من يستند إليه كي يساعده على النهوض وبالفعل يستطيع الوقوف بقوة محدودة على الأرض، تظل خطواته طوال حياته مترددة تُفْضِل المكوث في مكانها تخشى المحاولة، يظل صاحبها يمشي على أطراف أصابعه كلما همّ بأي نشاط أو حتى عندما يطلب منه رأي أو مشورة.
النموذجان الماضيان في مسيرة الحياة يكملانها باختلاف وبوتيرة متفاوتة فأحدهما يُقدم ويسبق، يقرر ويتحمل النتائج يتعلم يخطئ ويصيب والآخر يتعطل كثيراً. دائماً يكون لديه وازع التأجيل والانتظار غير المبرر وأخذ المشورة وإن كان الحل واضحاً والطريق جلياً ولكنه يفضل أن يستعين بالتجارب الأخرى حتى وإن كانت غير ملائمة لظروفه أو شخصيته، الرغبة الدائمة في الاستناد لازالت ترافقه فإنه لم يكبر بعد ولم يغادر سنوات عمره الأولى.
ومن يقرأ تلك الكلمات سوف يذهب فوراً إلى تبرير هذا السلوك، ورمي الكرة في ملعب الأسرة، يلقي اللوم على الأم أو الأب هناك من سيقول:
من المحتمل أن يكون الأبوان بالغا في دلال هذا الشخص, أو على العكس كانا يعنفانه كثيراً فأصبح يخاف ويتردد قبل البدء في أي نشاط بدني أو فكري ويكون ردي بسؤال واحد:-
فما بالكم بطفلين نَشَأَ في بيئة واحدة وأسرة واحدة؟ وتمتعا بنفس التربية والتعليم والإنفاق والحماية والرعاية
ولكن أحدهما استخدم تلك المعطيات وترجمها إلى دوافع وركائز انطلق منها إلى الحياة بكل قوة، والآخر انقلبت هذه المميزات لديه إلى أسباب للتراخي والاعتماد والتكاسل, كثرت لديه الاختيارات وتعددت أمامه الطرق فشعر بالاطمئنان وأنه لا شيء يدعو للقلق.
قد يكون في بعض الأحيان صديقان أو شقيقان يدخلان أحد المتاجر تجد الأول يحدد سريعاً ما يرغب في شرائه ويدفع ثمنه ويحصل عليه والآخر يمسك بأكثر من قطعة بين يديه ويبحث بطريقة عشوائية عن اللاموجود ثم يأخذ رأي البائع أو بعضاً من مرتادي المتجر ثم يترك كل شيء ويخرج ليكرر نفس الفعل في متجر آخر، هناك من يقرر مكان ومدة عطلته يستمتع بها ويعود والآخر ينشئ جداول ويكتب خيارات ويأخذ مشورات إلى أن ينتهي وقت عطلته على سريره كما هو لم يحرك ساكناً.
قد يضع الله له في طريقه آخرين يساعدونه على التخلص من هذا التردد وقد ينقله هو لهم، خاصة وإن كان لديه حجج وأسانيد قوية من وجهة نظره لعدم الحزم والبت في القرار الذي يخصه أو يخصهم, قد يقنعهم بأن الطقس أو الأمان أو السرقة أو الاستغلال أو أو أو إلى آخره هو ما يخاف منه ومن الأفضل توخي الحذر اللانهائي قبل الذهاب إلى أي مكان حفاظاً عليهم وفي حقيقة الأمر إنه لا يتعدى كونه خوفاً وانعدام ثقة بكل ما يحيط به من بشر وحجر.
هناك من يرى الحياة بجانب هؤلاء الأشخاص رتيبة باعثة على الملل والإحباط المتواصل إن لم ينتبهوا باكراً لهذا العيب الخطير.
الإحباط الذي ينتج من إمكانية عدم الاستماع إلى الآراء الإيجابية فقد تكون الرغبة في البقاء بالركن الآمن الذي وضعوا أنفسهم فيه هو الحاجز الأعلى الذي تتحطم عليه آمال الآخرين في تغيير سلوك هؤلاء.
هناك العديد من التعريفات السلوكية التي وضعت لوصف وعلاج حالات التردد عند البشر اتفقت غالبيتها على أن التردد هو (أيّ تأخير في السلوك ناجم عن شك في العقل أو شعور بالخوف), قد يكون حميداً عندما يمنح صاحبه وقتاً كافياً, التريث والتفكير قبل الإقدام على أي خطوة جديدة لكن عندما يزداد هذا السلوك، يكون أقرب إلى الحالة المرضية التي تحتاج إلى علاج أو تقويم.
كما وضعت الكثير من النقاط النظرية التي من وجهة نظري لا تناسب كافة الحالات التي يتصف أصحابها بالتردد لأنها أغفلت أسباب ساهمت في وجود تلك الشخصيات منعدمة الثقة في نفسها ولخصت معظم الأسباب وحصرتها داخل الأسرة فقط, من الأسباب التي غفل عنها الكثيرون:-
التنمر خارج نطاق الأسرة سواء من زملاء الدراسة أو الأصدقاء أو حتى المعلمين بل والأقارب, كذلك تأثر الطفل ببعض مشاهد من الأفلام أو البرامج التي وضعت للأطفال وكان بها بعض مشاهد لحوادث أو معارك أو أمراض بعض الأطفال مرت أمامه بسلاسة واستكمل مشاهدتها لمعرفة النتائج وآخر لم يتحمل وبقيت الصورة أو المشهد السيء في ذاكرته مؤثراً على اتخاذه أي قرار إما خوفاً من الفقد أو حفاظاً على الحياة أو خوفاً من الانتقاد والسخرية, كذلك غياب دور المدرسة الفعلي في مراقبة سلوك الطلاب مع بعضهم البعض وانحسار المراقبة في سلوك الطفل أمام معلميه والاهتمام بأن يكون مهذباً فقط غير آبهين بما تعرض له من بعض زملائه من إيذاء أو تنمر وما إذا كان تأثر به أم لا؟
بل والسكوت أو الضحك من سخرية المعلم منه أو بعض زملائه مما قد يفقده ثقته بنفسه طوال حياته.