د. تنيضب الفايدي
المسجد الحرام هو المسجد الذي فيه الكعبة المشرفة، وفيه أول بيت وضع للناس على وجه الأرض ليعبدوا الله مخلصين له الدين قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} سورة آل عمران الآية (96). وقد بنى إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام البيت على قواعد سابقة أظهرها الله له {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} سورة البقرة الآية (127). وهو قبلة المسلمين في الصلوات أينما كانوا في هذه الدنيا، ويشعر المسلم عند دخوله المسجد الحرام ورؤية الكعبة المشرفة بالرهبة.. رهبة الإجلال والتقدير، بل وقد يفقد التعبير وتعز عليه الكلمات المناسبة، لتحل الدموع تعبيراً عن رهبة وروعة اللقاء، حيث تجيش المشاعر في تلك اللحظات المتألقة، ولمهابة الموقف ورهبة اللقاء تطفر الدموع حباً وشوقاً حيث إن حبّ هذا المكان يكمن في القلب والنفس، إن حبّ الكعبة يتدفق مع نبضات القلب، وأتى إليها المحبّ على أجنحة من الشوق...إن موقف الرؤية، موقف التوقير والتهيب،.. موقف يتواءم مع عظم المنزلة للكعبة المشرفة، مع دعاء المسلم بأن يزيدها الله مهابة وتشريفاً، وكلما تكررت الزيارة ازداد الشوق للرجوع إلى هذا البيت، لأن الله سبحانه وتعالى جعله مثابةً للناس وأمناً، أي جعله محلاً تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه، ولا تقضي منه وطراً. ولو ترددت إليه مرات ومرات ولا غرابة في ذلك.. لأن الله سبحانه وتعالى جعل الأفئدة تهوي إليه من كل مكان في أرض الله.
إن البيت الحرام بمكة المكرمة هبة الله لبني البشر، وأحاول جاهداً أن أتصور إنساناً دون قلب يضخ الدم في الأوردة والشرايين، ويضخ معه المشاعر والأحاسيس، لكنني لا أتصور إطلاقاً (الكرة الأرضية) دون وجود مهوى الأفئدة الكعبة... البيت الحرام... مكة المكرمة... حيث إنها أطهر بقعة على وجه الأرض, مهبط الوحي وموقع المسجد الحرام المبارك, وكعبته المشرفة. مهوى أفئدة ملايين المسلمين والمسلمات في شتى أرجاء الأرض، فالكعبة هي مركز الكرة الأرضية وهي نقطة الانطلاق إلى جميع الجهات، كما أنها مركز الاستقبال من جميع الجهات أيضاً، تمثل تماماً قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ}، ويحتوي البيت الحرام عدداً من الأمكنة والمواضيع لها ذكر في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، منها مقام إبراهيم، قال تعالى فيه: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} فالمقام والمقامة: المجلس، ومقامات الناس: مجالسُهم، يقال للجماعة يجتمعون في مجلسٍ: مقامة، والمقامة والمقام: الموضع الذي تقوم فيه. كما أن المُقامة بالضم: الإقامة، وبالفتح المجلس والجماعة من الناس. وأما (المَقام) و(المُقام) فقد يكون كل واحد منهما بمعنى الإقامة، وقد يكون بمعنى موضع القيام؛ لأنك إذا جعلتَه من قام يقوم فمفتوح، وإن جعلته من أقام يُقيم فمضموم. وقوله تعالى: {لَا مُقَامَ لَكُمْ} أي: لاموضع لكم، وقريءَ {لَا مُقَامَ لَكُمْ} أي: لا إقامة لكم. وقوله تعالى: {حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} أي: موضعاً. أما مقام إبراهيم فهو الحجر الذي قام عليه إبراهيم عليه السلام عند بناء الكعبة. مقام إبراهيم للكردي (ص197) وأخبار مكة للأزرقي (ص152)، وإذا ذكر المقام فهو الخاص بقدمي إبراهيم عليه السلام حيث أصبح ذلك الحجر بالأثر الذي خلّفتْه قدما إبراهيم عليه السلام رمزاً لذكره وتخليداً له، وقد أمر الله سبحانه وتعالى أن يكون ذلك المقام مصلًّى للناس. قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} سورة البقرة الآية (125)، وفسّر بأن المسجد الحرام كله مقام إبراهيم عليه السلام، بل وقيل جميع مشاهد الحج كمنى وعرفة ومزدلفة تدخل ضمن مقام إبراهيم، ولكن التخصيص بالحجر الذي قام عليه إبراهيم عليه السلام عند بناء الكعبة هو الأشهر وهو المقصود في الآية، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى اله عليه وسلم قال: إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاء ما بين المشرق والمغرب. رواه أحمد برقم (6824). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وافقت ربي في ثلاث: قلت يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلًّى فنزلت {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} متفق عليه، وكان موضع مقام في الجاهلية وعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم الفتح ملاصقاً للكعبة، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخّره عن موضعه عند ما نزلت الآية {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} إلى مكانه الحالي، حتى لايعوق الطائفين.
وقد روى المؤرخون أن السيل قد جرفه في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأعادوه إلى مكانه حيث جاء عمر رضي الله عنه بنفسه من المدينة وأعاده إلى مكانه بمحضر من الصحابة وكان ذلك في رمضان عام 17هـ. الكعبة المعظمة والحرمان الشريفان عمارةً وتاريخاً للكردي (ص72). وقد بنيت عليه مقصورة وعليه ستار حتى لا يخلص إليه، وتم قياس المسافة عام 1377هـ فوجد أنها (أحد عشر متراً) ما بين المقام وشاذروان الكعبة (الصخور التي تحيط بأساس الكعبة)، ونظراً لازدحام الشديد حتى مع قلة أعداد الحجاج آنذاك فإن موقعه يمثل خطراً على الأرواح، ومرّ (الكاتب) بخطورة الزحام عام 1381هـ عندما كان صبياً لكن الله أنقذه من ذلك الموقف، وقد تقرر إلغاء بناء المقصورة واستبداله بالصندوق البلوري المشاهد حالياً بناءً على قرار توصية المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بتاريخ 25-12-1384هـ والذي جاء في مقدمة نصه: (تفادياً لخطر الزحام أيام موسم الحج وحرصاً على الأرواح البريئة التي تذهب في كل سنة تحت أقدام الطائفين الأمر الذي ينافي سماحة الشريعة الإسلامية ويسرها وعدم تكليفها النفس البشرية أكثر مما في وسعها، يقرر المجلس الموافقة على المشروع الآتي (وهو مشروع إزالة المقصورة) ورفعه إلى الجهات الرسمية في المملكة العربية السعودية المختصة). وكانت الاستجابة من الدولة سريعة جداً فكان هذا الإنجاز البلوري المشاهد اليوم. وبإزالة المقصورة مع باب بني شيبة ومبنى زمزم أُنْقِذَتْ كثير من الأرواح التي كانت تزهق في كل عام. وأصبح المطاف بشكله الحالي من عام 1387هـ. وفضل المقام ثابت الكتاب والسنة الصحيحة.
أما القرآن فقوله تعالى {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} سورة آل عمران الآية (97)، أما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الحجر والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة، طمس الله نورهما، ولولا أن طمس الله نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب» رواه الترمذي وابن حبان.