د.عبدالله بن موسى الطاير
انشغال الشمال بالمثلية وبحرب أوكرانيا والانشغال بالداخل وضع دول الجنوب في تحديات مصيرية، فهو لم يتعاف من بعد خروج متعسر من آثار جائحة كورونا، كما أنه يئن تحت وطأة الحرب بين روسيا وأوكرانيا التي عطلت سلاسل الإمداد الغذائية أو على أقل تقدير أربكتها، خاصة وأن بعض دوله تعتمد بشكل كامل على حبوب روسيا وأوكرانيا. الوضع ليس مريحاً لاقتصادات الدول النامية والأقل نمواً، وإنما ضرب مفاصل مجتمعاتها، وعطل التنمية، مما استدعى توجه الدول لتوفير بدائل للغذاء مرتفع التكلفة، وبالتالي تعثرت في سداد فوائد قروض المؤسسات المالية العالمية الخاصة والدولية.
الذي تابع مداخلات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قمة «ميثاق مالي عالمي جديد» يلاحظ عدد مرات ذكره دول الجنوب، وتكرار عبارات صادمة تتعلق بخلل النظام المالي العالمي، وبالنص اعترف بعدم عدالة النظام المالي العالمي الحالي، ونقل في ختام القمة الاتفاق التام على ضرورة إعمال إصلاحات عميقة للنظام المالي العالمي ليكون أكثر فاعلية وإنصافاً، وأكثر تكيفاً مع عالم اليوم. هذا الاجتماع الطوعي الذي حضره نحو أربعين رئيس دولة وحكومة لم يصدر عنه بيان، ولكنه مع ذلك حفل بالكثير من الوعود بإصلاح المنظومة المالية الدولية، تجنباً لتعدد المؤسسات، وربما يكون ذلك إشارة لبنك التنمية الجديد التابع لمجموعة بريكس.
بالتوازي مع أعمال قمة باريس انقسم العالم إلى شطرين حيال اختفاء ما سمي بغواصة الأثرياء تيتان التي انفجرت لاحقاً واستقرت في أعماق المحيط إلى جوار سفينة الأثرياء تيتانك. في الوقت الذي تنادت فيه الدول العظمى وانشغل الشمال منقذاً ومتابعاً اختفاء تلك الغواصة لأنها تنتمي وركابها إلى الشمال يغرق العشرات، بل المئات في مياه البحر الأبيض المتوسط من مواطني دول الجنوب الباحثين عن لقمة عيش وحياة كريمة مما يفضل عن موائد الأغنياء، ولا أحد يأبه لموتهم، بل يتفرج المنقذون على هلاكهم ولا يهرع أحد لإنقاذهم.
كتبت سيليا بيلين ولوريان ديفويز من المجلس الأوروبي للعلاقات الدولية مقالة بعنوان «شريان حياة بين الشمال والجنوب: ما يأمل ماكرون في تحقيقه من خلال القمة من أجل ميثاق تمويل عالمي جديد» أن الشمال يواجه معضلة بعد حوالي سنة ونصف من اندلاع الحرب في أوكرانيا وأن الأوروبيين والأمريكيين يشعرون «بالقلق بشأن علاقتهم بجنوب الكرة الأرضية». وفي حين أن الحلفاء عبر الأطلسي متحدون فإنهم «في حيرة من أمرهم بسبب رد الفعل الفاتر في كثير من الأحيان من جانب دول العالم الثالث على العدوان الروسي -كما تقولان- ويبدو أن الفجوة بين الشمال والجنوب آخذة في الازدياد».
وفي تشخيصهما للمشهد كتبتا أن الأزمات العالمية في السنوات الخمس الماضية المتمثلة في كوفيد -19 ، والحرب الروسية الأوكرانية، والتضخم، والتغير المناخي أدت لانكفاء الأوروبيين إلى الداخل، في حين أن هذه التحديات دفعت الكثير من دول العالم النامي إلى التدهور الاقتصادي جنبًا إلى جنب مع تفاقم أسعار الطاقة وانعدام الأمن الغذائي. الحلول التي لجأ إليها الشمال في وجه الأزمات تمثل في إغلاق الحدود، والعقوبات، وهي تدابير خلفت آثاراً سلبية كبيرة على جنوب الكرة الأرضية، و»انزلق النظام متعدد الأطراف إلى أزمة، تسارعت وتيرتها بفعل آثار التنافس بين الولايات المتحدة والصين، وفشل الشمال في توفير الإغاثة للدول النامية والضعيفة».
لعقود كان الشمال صاحب الكلمة الفصل في مصير الجنوب، وكان الأخير يسمع ويطيع ويقنع بالقليل من يد الأسياد العليا، لكّن دخول شبكات التواصل الاجتماعي، وموت حراس البوابة الموالين للشمال، وبروز أجيال شابة متمردة على الأطر البالية، وذات خطاب منطقي يلامس شغاف قلوب العامة، أحدث فجوة مع الشمال الذي لم يغيّر أو يجدد استراتيجياته في التعامل مع مستعمراته السابقة، مما اضطر النخب الحاكمة إلى التماهي مع الخطاب الشعبوي المتمرد على الشمال، وبالتالي حدثت الفجوة وتفاقمت بين الأغنياء والفقراء.
هل يستطيع الرئيس ماكرون بتودده للجنوب إصلاح ما أفسده الشمال، وبذل الوعود سخية، دون إعلان التزامات يمكن تعليق الآمال عليها وفق تزمين منطقي يستجيب للحاجات الملحة للدول الفقيرة؟ لا يمكن قبول خطاب يعيد الجنوب البائس اليائس الناشز إلى بيت الطاعة، لكن القبول ببعض الوعود واختبارها على أرض الواقع قد يجدي في إبطاء عجلة الهرولة بعيداً عن الشمال باتجاه نظام عالمي أكثر توازناً، وبالضرورة في وجه الترتيبات الغربية.