مشعل الحارثي
وبلادنا تموج هذه الأيام بوفود بيت الله في رحلة الحج المباركة، رحلة العمر التي يمني بها المسلم نفسه، وتهفو بها روحه إلى أرض الخيرات والبركات، إلى مكة الغراء قبلة الدنيا، ومشرق النور والهداية، التي ينصهر فيها قلب الحاج والمعتمر والقاصد لبيته العتيق؛ حباً لله ولرسوله وطاعة لأمره، وإجابة لدعوة أبو الأنبياء وخليل الله -جل في علاه- إبراهيم -عليه أفضل الصلاة والسلام-: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}، ومن ذلك نجد أن الفطرة الإنسانية المؤمنة قادت هؤلاء الحجاج لأداء هذا النسك العظيم الذي أصبح ركناً أساسياً من أركان الإسلام؛ طمعاً في رحمة رب العالمين ومغفرته ورضوانه، إلى جانب المنافع الدنيوية الأخرى في هذا التجمع الإيماني الضخم المحدود بالزمان والمكان ووحدة الأقوال والأفعال.
تعاليت يا رب الحجيج فمالنا
سوى بابك المفتوح في الأزمات
قصدناك يحدونا رجاء وفرحة
وجئنا وفوداً من بعيد جهات
فلم يثننا بحر ركبناه مائج
ولا وحشة الديجور في الفلوات
فقد كنت يا رب الحجيج أنيسنا
بنورك جزنا داجي الظلمات
وها نحن قد جئناك شعثاً وخلفنا
تركنا بلا من نعيم حياة
نطوف ونسعى مثلما قد أمرتنا
ونرجم إبليساً بذي الجمرات
وضمن هذه الصور عن الحج والحجيج وأحوالهم، تأتي كتب الرحلات الحجية التي دون بها أرباب الحرف والقلم من هؤلاء الرحالة الأدباء، أبرز الوقائع والمشاهد والأحداث التي مرت بهم في رحلاتهم وصور من المظاهر السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية والصحية والثقافية في بلاد الحرمين الشريفين، ومدن الحجاز وغيرها من البلدان التي مروا بها في هذه الرحلات كأحد أهم المصادر التاريخية في أدب الحج وسفر متكامل لأحوال الأمة الإسلامية.
وفي رحلة لطيفة وممتعة قضيتها مع كتاب جدير بالقراءة والاقتناء لمؤلفه أخي وزميلي الأديب الدكتور يوسف العارف الذي يحمل عنوان (الرحلات الحجية قراءة في المتن والمضامين)، والذي كانت نواته البحث الذي شارك به في ندوة الحج الكبرى المنعقدة في مكة المكرمة عام 1422هـ، بتنظيم من وزارة الحج، وكان نصيبه الحديث عن الرحلات المشرقية، ثم تناولها بتوسع في كتابه من خلال ثلاثة محاور، أتى في محورها الأول على عرض للقيمة الأدبية والتاريخية لكتب الرحلات الخاصة بالحج، ووقف على مجموعة من كتب الرحلات الحجية المشرقية المعروفة في تراثنا الأدبي، وما سجلته هذه الرحلات من صور ومشاهدات، ومنها رحلات إبراهيم رفعت باشا التي دونها في كتابه (مرآة الحرمين)، وكتاب (الحجاز) لـ»إبراهيم عبدالقادر المازني»، ورحلة وديوان حسن بن عبدالله الكاف عام 1330هـ في كتابه (الطرف الشهية المستفادة من الرحلة إلى الديار المصرية والحجازية)، ورحلة أمير البيان شكيب أرسلان (الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف)، رحلة إسماعيل جغمان (نيل الوطر في ذكر أحوال السفر إلى الحرم الأزهر والنبي الأنور)، رحلة عباس متولي حمادة وكتابه (مشاهداتي في الحجاز)، ورحلة الحاج عبدالعزيز صبري بك (خطرات ومشاهدات في الحج)، ورحلة محمد لبيب البتنوني (الرحلة الحجازية)، والرحلة المنظومة شعراً للشاعر اليمني محسن عبدالكريم إسحاق، ورحلة الإمام محمد رشيد رضا (رحلة الحجاز)، ورحلة محيي الدين رضا (رحلة الحجاز)، ورحلات محمد صادق باشا (الرحلات الحجازية)، ورحلة يحيى مطهر بن إسماعيل وكتابه (بلغة المرام في الرحلة إلى بيت الله الحرام)، ورحلة الشيخ محمود أحمد ياسين رئيس جمعية الهداية الإسلامية بدمشق (الرحلة إلى المدينة)، ورحلة محمد بهجة البيطار الدمشقي (الرحلة النجدية الحجازية.. صور من حياة البادية)، ورحلة محمد حسين هيكل وكتابه (في منزل الوحي).
وفي المحور الثاني يستعرض المخاطر والمصاعب التي كان يتعرض لها الحجاج في الطرق التي كانوا يسلكونها من ديارهم براً وبحراً وما يتعرضون له من أوبئة وأمراض وهجمات قطاع الطرق واللصوص، وتوافقاً مع فيلم (الطريق إلى مكة) الذي صور جوانب من هذه المخاطر.
ثم تناول بالحديث مشاهداتهم للواقع المعيشي لمناطق الحج في تلك الفترات السابقة واوائل الحكم السعودي، ثم أعقبه بعرض موسع وتحليل لنماذج من هذه الرحلات وبعض الرحالة الغربيين القادمين إلى الحجاز، لينتقل بنا بعد ذلك إلى فصل فيه الكثير من الطرافة عنونه باسم (الغريب والعجيب في الرحلات الحجازية) يورد به العشرات من القصص والحكايات الواقعية أو التي تصل إلى حد الخرافة وعدم التصديق، ومن ذلك أنه في إحدى حملات الحج الآسيوية، إفتقدت أحد حجاجها منذ وصولهم إلى مكة وزيارة جبل ثور، واستمر فقد الحاج حتى نهاية الحج والحملة تبحث عنه ولم تجده، وقبل العودة إلى إندونيسيا في آخر أيام الحج عادوا من الحرم بعد العشاء فوجدوا الحاج في غرفته فاستغربوا واندهشوا فأخبرهم الرجل أن الجن خطفوه وأدى الحج معهم وأتم نسكه كاملاً، تقول زوجته إن الحاج كان ورعاً تقياً لم يسبق له معصية الله، ويختتم المؤلف كتابه الممتع بنقل تجاربه ومشاهداته الشخصية في الحجات التي تيسرت له منذ طفولته وحتى الستين من عمره.
وقياساً لما سبق عرضه وبالعودة لأرض الواقع والمقارنة بين عنت ومشقة رحلة الحج عبر كل تلك القرون والأحقاب الغابرة وأهوالها ومجاهيلها التي لا يعرف لها حدود، وتلك الصفحة المظلمة التي طويت وإلى الأبد منذ استقرار الحكم للمؤسس الملك عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- وأبنائه الملوك من بعده حتى عهدنا الزاهر بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين، وذلك الفارق الشاسع ما بين القديم والحاضر الذي يفوق الخيال فيما يلقاه الحاج والمعتمر اليوم من عناية واهتمام وما يقدم من أجله من خدمات وتسهيلات منذ أن تطأ أقدامه هذه الأرض المباركة وحتى مغادرته عائداً لبلاده مصحوباً بالسلامة، وما نفذ وينفذ سنوياً لراحته واطمئنانه من مشاريع ضخمه تقدر بعشرات المليارات من الريالات، وما يسخر من إمكانات ويحشد من طاقات بشرية ليتفرغ تماماً لأداء عبادته ومناسكه بكل هدوء وطمأنينة، وكلها جهود تدعو للفخر والاعتزاز وتفوق كل كلمات الثناء والإطراء على ما تحقق للوطن وللإنسان السعودي من نجاح وفلاح وتفوق في البذل والعطاء، وليبقى الوطن ممتداً في المدى شأناً ورقياً وشموخاً ورفعة.
فهنيئاً لوفود بيت الله الذين استجابوا لدعوة ربهم رحلتهم الميمونة وحجهم المبرور وسعيهم المشكور، وهنيئاً لبلادنا وقادتنا وأبناء هذه البلاد هذا الشرف العظيم الذي اختصهم الله به وجزاءهم عن كل ذلك موفور الأجر والثواب، وكل عام والجميع إلى الله أقرب.