عبدالرحمن الحبيب
القوة في العالم الحديث - عسكريًّا واقتصاديًّا وجيوسياسيًّا - مبنية أساسًا على الرقائق أو الشرائح الإلكترونية التي تعتبر «النفط الجديد» في الجغرافيا السياسية، حسب كتاب جديد بعنوان «حرب الرقائق: الصراع من أجل التكنولوجيا الأكثر أهمية في العالم»، لمؤلفه المؤرخ الاقتصادي كريس ميلر الذي يبرر هذه «المبالغة» بأن «الصين تنفق الآن أموالًا كل عام في استيراد الرقائق أكثر مما تنفقه على النفط»، وأن «أشباه الموصلات قد حددت العالم الذي نعيش فيه، وحددت شكل السياسة الدولية، وهيكل الاقتصاد العالمي، وتوازن القوة العسكرية».
وفي ذات السياق يوضح الكتاب تنافس الولايات المتحدة والصين على هذه الرقائق الدقيقة في الصراع على سيادة تايوان كنقطة اشتعال رئيسية اقتصادية وجيوسياسية، وأكثر من ذلك فهي ذات أهمية استراتيجية للأمن القومي، نظرًا لأن تايوان تقوم بتصنيع 37 في المائة من الإمدادات العالمية لهذه الرقائق، وهي أكبر نقاط ضعف الصين الخارجية لأنها تعتمد بشكل أساسي على استيراد الرقائق من الخارج.. وحيث إنها ضمن مدى سهل للصواريخ الصينية، يخشى الغرب أن يكون الحل في متناول اليد.
قد يكون مفاجئًا أن تصبح أشباه الموصلات، أو هذه الرقاقة الدقيقة، تشكل السلعة الأكثر طلبًا في العالم والأضخم حتى من النفط حسب زعم المؤلف الذي يؤكد أنه لا غرابة في ذلك إذ صارت تلك الرقائق لا غنى عنها في كل شيء تقريبًا بداية من الأجهزة المنزلية العادية مثل أفران الميكروويف والغسالات إلى أندر المنتجات الفاخرة المتطورة، فأغلب السلع الإلكترونية الآن تتطلب تلك الشرائح من الهواتف الذكية إلى أجهزة الكمبيوتر وحتى الشبكة الكهربائية، ومن السيارات إلى الطائرات، ومن الأجهزة الطبية إلى معدات التصنيع. أصبحت البنية التحتية الرقمية الرئيسية مثل الاتصالات، والخدمات المصرفية، ووسائل التواصل الاجتماعي، وحتى البورصات العالمية تعتمد أيضًا على رقائق السيليكون المجهرية هذه.
بالإضافة إلى تطبيقاتها التجارية الواسعة، أصبحت الجيوش أيضًا تركز بشكل متزايد على تأمين إمدادات موثوقة من الرقائق، حيث أصبحت الحرب أكثر «معلوماتية» و»ذكاءً». ستكتسب الجيوش التي تتمتع بالقدرة على تسخير قوة الرقائق الدقيقة لإنتاج أسلحة أكثر دقة وأنظمة وأقمارًا صناعية أكثر تطورًا وقدرات صيانة تنبؤية أفضل ومركبات ذاتية القيادة أكثر مرونة.
يتناول الكتاب التسلسل التاريخي الذي أدى إلى سيطرة الولايات المتحدة على تصميم رقائق السيليكون، فعقب الحرب العالمية الثانية مع نشأة صناعة أشباه الموصلات في وادي السيليكون بكاليفورنيا، حيث حفز الطلب المرتفع للشركات الأمريكية في تصميم وإنتاج الرقائق الدقيقة. حاول الاتحاد السوفيتي إجراء هندسة مشابهة لنسخة وادي السيليكون في الستينيات، لكنها لم تصل لمستوى الأمريكي، مما جعل أسلحتهم الموجهة بدقة غير فعالة مقارنة بالمنتج الأمريكي، حسب المؤلف. كذلك الأمر ذاته في أوروبا الغربية التي لم تشكل منافسًا قويًّا لوادي السيليكون، باستثناء مرحلة محورية واحدة في عملية الإنتاج تُعرف باسم الطباعة الحجرية الشديدة فوق البنفسجية في هولندا.
أما التطور التالي في صناعة الرقائق الدقيقة فقد أتى من آسيا، في اليابان وكوريا الجنوبية وهونغ كونغ وسنغافورة وتايوان في العقود الأخيرة من القرن العشرين. ولفترة من الوقت، بدا الأمر كما لو أن اليابان سوف تتفوق على الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى البارزة في صناعة أشباه الموصلات.
مع بداية القرن الحادي والعشرين شهدت صناعة الرقائق الأمريكية انتعاشًا بفضل قدرتها على التكيف، وحاليًّا تركز الصين في مجال الرقائق على «تحقيق اختراقات في التكنولوجيا الأساسية بأسرع ما يمكن.» لكن إدارة ترامب تعاملت بشدة مع وضع ضوابط التصدير إلى الصين على جميع منتجات الرقائق الدقيقة المصنوعة في الولايات المتحدة، ومن خلال إقناع الحلفاء الجيوسياسيين بالتزامات مماثلة. على الرغم من أن الولايات المتحدة قد عطلت مؤقتًا النظام البيئي الصيني الناشئ للرقاقات الدقيقة، إلا أن القيود الأمريكية «حفزت أيضًا موجة جديدة من الدعم الحكومي لصانعي الرقائق الصينيين». بالنسبة للعديد من شركات الرقائق الدقيقة، كان للدعم الحكومي والحماية دور فعال في بناء مواقعها الصناعية والحفاظ عليها. ومع ذلك، كما لاحظنا مع الاتحاد السوفيتي، لم يوفر التخطيط المركزي وحده طلبًا كافيًا من المستهلكين وتحفيزًا للسوق لمواكبة النمو الهائل في الابتكار.
تشكل «معضلة تايوان» نقطة محورية في عدد من فصول الكتاب، حيث وضع ميلر نظرية لسيناريوهات مختلفة التي قد تحدث فيها مواجهة بين الصين وتايوان، وخلص إلى أن كارثة في تايوان «يمكن أن تكون أكثر تكلفة من وباء كورونا» حيث الخسائر الاقتصادية «ستقاس بالتريليونات».
بنهاية الكتاب، يؤكد ميلر أن هذه الرقائق المجهرية، التي يبلغ حجمها حجم مائة ميتوكوندريا (مولدة الطاقة في الخلية)، شكلت أساس العالم الذي نعيش فيه وأن الصراع من أجل التفوق فيها سيستمر بالنمو في المستقبل لفترة طويلة قادمة.
حاليًّا يتم تنفيذ تصميم الرقائق المتقدم في الولايات المتحدة؛ ويتم إنتاج معدات التصنيع الأساسية في اليابان وهولندا والولايات المتحدة؛ وأكثر من ثلث عمليات تصنيع الرقائق الإلكترونية تحدث في تايوان.. تميّز «حرب الرقائق» الآن التنافس بين الولايات المتحدة والصين، حيث تسعى بكين إلى بناء قدرات التصميم والتصنيع وتأمل واشنطن في إبطاء تقدم الصين.