ما استمعت قط إلى أحدنا وهو يخرج عن النص أثناء حديثه بلغة الضاد مرددًا بضع مفردات من لغات أخرى، إلا ووجدت لغتنا العربية الماجدة تسجل وقفةً فيها الكثير من العتاب قائلة: «في حوزتي ما يزيد عن اثني عشر مليونًا وثلاثمائة ألف كلمة أحتل بها المركز الأول ومن بعدي تأتي اللغات الأخرى؛ ففي المركز الثاني تأتي اللغة الإنجليزية بستمائة ألف كلمة فقط، ثم اللغة الألمانية في المركز الثالث بمائة وستين ألف كلمة، ثم اللغة الفرنسية في المركز الرابع بمائة وخمسين ألف كلمة، فاللغة الروسية في المركز الخامس بمائة وثلاثين ألف كلمة، ومع ذلك يأبى البعض منكم إلا أن يقحم بين مفرداتي بضع كلمات بالإنجليزية أو الفرنسية أو غيرهما».
وإني إذ أتحسس حيرتي حيال ذلك البعض الذي لا يحلو له الحديث باللغة العربية إلا ويذهب أثناء حديثه إلى مفردات غير عربية أبرزها اللغة الإنجليزية مثل (Amazing)، أو (Exactly)، أو (Nice) أو (Delicious) أو (Okay) ... إلخ، لأتساءل: ألم يجد أولئك في حروفنا العربية ما هو أدق فصاحة وأعمق بلاغة من تلك المفردات؟ أم أن هذا النهج يشكل مظهرًا من مظاهر التميز في إطار الثقافة؟
لا أحد يقف ضد تعلم اللغات الأخرى والتحدث بها، إنما المناداة بألا نقحم مفردات تلك اللغات في ثنايا حديثنا باللغة العربية، لأننا بهذا النهج كأننا نرسل سبابة الاتهام بالعجز تجاه مفرداتنا العربية وهي من ذلك براء.
ولست أدري؛ ما الذي نبحث عنه كي نتحسس معالم الفخر إذ ننتمي لأعظم لغة حية في هذا الكون؛ ألم يكفنا اعتزازًا أنها لغة القرآن الكريم المشبعة بأساليب البلاغة، وبديع المعاني، وحسن البيان، والدقة، والعمق، والشمول، والثراء.
والواقع أن الخشية جراء ذلك ليست على اللغة العربية؛ فقد حفظها الله بحفظ كتابه العظيم، إنما الخشية علينا نحن؛ أن تضيع هويتنا ويتيه انتماؤنا، أو في أقل تقدير أن تزيغ ألسنتنا.
وفي هذا الإطار أقول تحت عنوان «زَاغَ اللِّسَانُ»:
يَنْتَابُنِي أَلَمِي يَجْتَاحُنِي قَهْرِي
كَمْ ضَاعَ مِنْ حَرْفِي كَمْ هَان مِنْ قَدْرِي
أَوَّاهُ يَا وَلَدِي أَوَّاهُ يَا كَبِدِي
مِنْ هَوْلِ مَا زَاغَ اللِّسَانُ عَنْ ذِكْرِي
هَلْ تَشْكُو مِنْ نَبْضِي أَمْ تَشْكُو مِنْ نَغَمِي أَمْ
حَادَكَ الْغَرْبُ عَنْ مَدِّي وَعَنْ جَزْرِي
إِنِّي أَرَى مِنْكَ إِدْبَارًا بِلَا جَزَعٍ هَلْ
صِرْتَ فِي طَوْعِ مَنْ يُغْرِيكَ فِي هَجْرِي
عُدْ يَا مُنَى قَلْبِ مَعْشُوقٍ، فَهَذا أَنَا
تَاجٌ مِنَ الْمَاسِ، بَرْقٌ فِي سَمَا شِعْرِي
قَدْ غَابَ عَنْكَ الجَوَى مُذْ غِبْتَ عَنْ خَلَدِي
مَا فُزْتَ بِالضَّادِ يَوْمَ انْزَحْتَ عِنْ صَدْرِي
فَاذْهَبْ إِلَى أُخْرَى وَاذْهَبْ إِلَى عَبَثٍ
اذْهَبْ وَلَا تَأْتِ لِي بِاللَّغْوِ مِنْ غَيْرِي
أَمَّا أَنَا فَاسْأَلِ الرُّوَّادَ عَنْ وَطَنِي
اسْألْ إِذَا تَاهَ مَنْ أَغْوَاكَ عَنْ أَمْرِي
فَلْتَأْخُذُوا مِنْ صَدَى قَوْلِي وَمِنْ وَجَعِي
نُصْحًا جَمِيلًا بِهِ يُرْوَى لَكُمْ خَيْرِي
هَذِي اللُّغَاتُ الَّتِي ذُبْتُمْ بِهَا طَرَبًا
لَيْسَتْ بِمِثْلي وَلَا يَلْهُو بِهَا شَطْرِي
** **
- عضو اتحاد الكتَّاب والأدباء الأردنيين