أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: الهداية التوفيقية؛ هي التي تكون بعون الله ولطفه ورحمته وإحسانه ابتداءً، وتكون شكراً من الله لعبده على امتثاله فيزيده هدى وتوفيقاً.. قال الله سبحانه وتعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (سورة الحجرات/ 17)، وقال الله سبحانه وتعالى فيما قصه عن المؤمنين: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ} (سورة الأعراف/ 43)، وقال سبحانه وتعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء} (سورة الأعراف/ 155)، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} (سورة القصص/ 56)، وقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (سورة العنكبوت/ 69)، وقال سبحانه وتعالى عن القرآن : {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} (سورة البقرة/ 26).. وتعددت الآيات بأن الله لا يهدي القوم الكافرين، وأنه لا يهدي القوم الظالمين، وأنه لا يهدي القوم الفاسقين؛ فهذا تعليل بصفة الكفر والظلم والفسق، وقد جاء التعليل الأشمل بقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (سورة التوبة/ 80).. وتارة يأتي الإضلال غير معلل كقوله تعالى: {فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (سورة إبراهيم/ 4).. وتارة يأتي التعليل إيماءً بذكر علة هداية من هدى؛ فيكون ذلك تفسيراً لمن ورد إضلاله بإطلاق كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} (سورة الرعد/ 27)، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (سورة الزمر/ 3)، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (سورة غافر/ 28).. وذكر سبحانه الهداية ابتداءً، والهداية جزاءً؛ فقال تعالى: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} (سورة الشورى/ 13)، وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (سورة الصف/ 5).. وقال تعالى عن هداية التوفيق بعونه ابتداءً: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} (سرة الأنعام/ 125)، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} (سورة يونس/ 9)؛ فهذه الآية الكريمة بسياقها وعمومها تشمل هداية الإعانة القدرية الكونية في الدنيا، وتشمل الإعانة الكونية في الآخرة بأن يعرفوا طريقهم إلى الجنة ومكانهم فيها.. ووعد جل جلاله - إضافة إلى حكمه بإضلال من ضل باختياره - بالغفران لمن اهتدى باختياره؛ وبهذا تحصل له هداية التوفيق الجزائية ؛ فقال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (سورة طه/ 82)، وظهر ببيان جلي ولله الحمد: أن الله لا يجبر أحداً على الضلال، وإنما المؤكد سبق علمه سبحانه بمن يضل اختياراً وقدرة.. قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} (سورة النجم/ 30)، وقال تعالى عن هداية التوفيق الجزائية: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} (سورة محمد/ 17).. ولا هداية مطلقاً إلا بإعانة الله وهدايته التوفيقية كما في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ} (سورة الأعراف/ 43).. ولكنه سبحانه ضامن لعباده الهداية إذا اختاروا بحريتهم وقدرتهم اللجوء إلى الله بالدعاء؛ لأن الدعاء من قدر الله، والله يدفع قدرَه بقدرِه؛ لأن الله يمحو ما يشاء ويثبت، ومحوه وإثباته كله مقدَّر في سابق علمه.. وهداية الله التوفيقية الابتدائية تفضُّل منه سبحانه مسبق يختص بها من يشاء كما في قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (سورة السجدة / 13).
قال أبوعبدالرحمن: ههنا وقفات: الوقفة الأولى أن هداية التوفيق تكون ابتدائية اصطفاءً من الله واجتباءً؛ لعلمه المسبق بمعدن المهديين من سلامة القصد، والتمسك بالفطرة كهدايته للرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم كصدِّيق الأمة أبي بكر رضي الله عنه.. ومنها هداية جزائية لامتثال مسبق، وهي هداية ازدياد واستقامة.. والوقفة الثانية: كل ضال فبحريته وقدرته التي منحها الله إياه، فإن تعطلت القدرة والاختيار ارتفع التكليف.. والوقفة الثالثة : كل مهتد - غير من هداه الله ابتداءً - فهدايته صادرة عن حريته وقدرته التي منحها الله إياه؛ فإن تعطلت القدرة ارتفع التكليف.. والوقفة الرابعة: كل مهتد غير من هداه الله ابتداءً فلم يهتد هداية توفيق إلا بتسديد وعون من الله ؛ لأنه مانحه الحرية والقدرة في السلوك، ولأنه مهتد في سابق علم الله.. وفي سابق علم الله أن هدايته مقرونة بالاعتصام بالدعاء واللجوء إلى الله، والله ضامن الإجابة لمن عاذ بالله، واعتصم به أن يُلقى في النار؛ فهو سبحانه الذي شرح صدره للإسلام، وأعانه على محصِّلات السلامة.. والوقفة الخامسة: لله بإحسانه أن يتفضل بالهداية إحساناً وتكرماً، ولا يجب عليه ذلك لكل أحد، وإنما أوجب على نفسه سبحانه العدل: بأن لا يُدين أحداً بلا حجة وحرية وقدرة يملك بهما سلوك الخير أو الشر.. والوقفة السادسة: ليس في ابتدائه سبحانه بالإحسان تفضلاً، وليس في حجبه العون عمن ملَّكه حرية الاختيارين والقدرة عليها: أي عبث، بل ذلك عن علمه السابق الشامل.. والوقفة السابعة: في علمه أنه سيمحو وسيثبت وستسبق رحمته غضبَه، وجعل من أسباب ذلك: الاعتصام بالدعاء، والبراءة من الحول، وتفويض الأمر إلى الله، وأن المكلف يجتهد ويعمل، ويرجو رفع قدره بقدره الآخر وهو الدعاء، ويتمسك بعقيدة أن رحمة الله تسبق غضبه، ويتمسك بعقيدة أن الدعاء والاستعاذة بصدق وخوف ورجاء مضمون الإجابة، وأن الله فعَّال لما يريد، وأن إرادته مسبوقة بعلمه، وأن وعده متحقق ولابد صدقاً وعدلاً، وأن إيعاده مهما عظم مندفع بالإنابة الصادقة، والاستعاذة بخوف ووَجَل، والدعاء بصدق يقين؛ فيدفع جل جلاله قدر إيعاده بقدر رحمته المتسببة عن الدعاء والاستعاذة، فذلك محوه وإثباته، وذلك سابق علمه.. والوقفة الثامنة: وسائل قبول الاستعاذة والدعاء قائمة بها الحجة من بيان الله بشرى؛ فليحظ منة الله لا فعله هو {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنَْدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} (سورة الحجرات/ 17)، و{وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ} (سورة الأعراف/ 43)، وأن التقرب إلى الله بفعل الخيرات محقِّق بيقين لا لبس فيه الازديادَ من الهداية وضمان الاستقامة؛ فهو يهدي من أناب، وأن اهتداء الامتثال ضمانة لهداية الرب التي ترفع العبد من ظالم لنفسه أو مقتصد إلى محسن، وأن العناد والجحد بعد تبيُّن الحق في النفس واستقراره سبيل إضلال من الله تسوء به الخاتمة ويتضاعف به الإثم.. والوقفة التاسعة: أن إضلال الله لا يكون ابتداءً ألبتة.. وأما منعه الهداية التوفيقية ابتداءً عمن شاء من خلقه فحكمتها علمه المسبق بما سيسلكه العبد بحريته واختياره التي منحها الله إياه .. وهي لا ترد على عدل الله ألبتة؛ لأنه هداه كوناً وشرعاً هداية بيان وإيضاح، ومنحه الحرية والقدرة، ولم يُؤاخذ مع تعطلهما.. وفي هدايته البيانية الإيضاحية بسط جانب الرجاء: بأن قدره مدفوع بقدره، وكل ذلك مسبوق بعلمه، وجعل من قدره الإحساني الدافع لقدره العدلي تعهد النية بالصدق مع البرهان، وعقد القلب على ما قضى به البرهان، والتحذير مما يصد عن الحق من هوى وحمية واتباعية غير محققة، وذكر الله الدائم باللسان وفي القلب، وإدمان الاستعاذة والدعاء.. ومن أراد الضمانة لهداية التوفيق فليلزم سببي الاستعاذة والدعاء.. والوقفة العاشرة: لله إضلالٌ للعبد، وجبر له على المعصية.. ولكن ليس هذا ابتداءً، بل يكون جزاءً لمن عرف الحق وعانده، وتمادى في محاربة الله، والصد عن سبيله؛ فقد يعاقبه الله بعذاب في الدنيا ثم يُرَدُّ إلى عذاب الجحيم، وقد يمهله ويختم على قلبه وسمعه وبصره - عقوبة لا ابتداءً - ليتمادى على سوء عمله، ويزداد إثماً مع إثمه ، فهذا مقتضى عدل الله، وقد أقام الحجة بالبيان والإنذار والتبشير؛ فإلى لقاءٍ قريب إنْ شاءَ الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم/ أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -