سارا القرني
ذكر ابن الجوزي في كتابه «أخبار الحمقى والمغفلين».. أنّ أحدَهم قد سُئِلَ: لِمَ لَم تنصرف «أشياء»؟ (يقصدون لماذا تُمنع من الصرف في النحو؟) فلم يفهم ما قيل له، ثم سكت ساعة فقال: أنت تسأل سؤال الملحدين؛ لأن الله يقول: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء}?
ابنُ الجوزي إمام أهل عصره وحجة زمنه، قال عنه الذهبي: «ما علمتُ أنّ أحدًا من العلماء صنّف ما صنّف هذا الرجل»، العلامة المؤرخ المحدث الفقيه الواعظ والمصنف.. إلى نهاية ألقابهِ التي قصدتُ سرد بعضها كي أصل لغايتي، هذا الإمام قد ألّفَ كتاباً غايةً في اللطافة وعميقاً في رسالته ومغزاه.. ألا وهو «أخبار الحمقى والمغفلين»، ويذكر الإمام ابن الجوزي في مقدمة هذا الكتاب «إني لمّا شرعت في جمع أخبار الأذكياء وذكرت بعض المنقول عنهم ليكون مثالًا يحتذى -لأن أخبار الشجعان تعلِّم الشجاعة- آثرت أن أجمع أخبار الحمقى والمغفلين لثلاثة أشياء: الأول «أن العاقل إذا سمع أخبارهم عرف قدر ما وهب له مما حرموه، فحثه ذلك على الشكر»، والثاني «أن ذِكر المغفلين يحث المتيقظ على اتقاء أسباب الغفلة... وأما إذا كانت الغفلة مجبولةً في الطباع، فإنها لا تكاد تقبل التغيير»، والثالث «أن يروّح الإنسان قلبه بالنظر في سير هؤلاء المبخوسين حظوظًا يوم القسمة، فإن النفس قد تمل من الدؤوب في الجد، وترتاح إلى بعض المباح من اللهو، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحنظلة: «ساعة وساعة».
وبعد سرد الأسباب التي دعت ابن الجوزي لجمع أخبار الحمقى والمغفلين.. أفرد باباً للتحذير من صحبتهم، ونقل أقوال العلماء فيهم، فابتدأ بتحذير -تمنيت لو كان يظهر تلقائياً لكلّ من يتصل بالشبكة العنكبوتية- كي يتنبّه «لا تؤاخِ الأحمق، فإنه يشير عليك ويجهد نفسه فيخطئ وربما يريد أن ينفعك فيضرك، وسكوته خير من نطقه وبعده خير من قربه وموته خير من حياته». إنّ ادّعاء المعرفة أشدّ خطراً من الجهل.. والظنّ بأنّ ازدياد الشهرة ازديادٌ في الثقافة لهو إسرافٌ في الحمق، وما اجتمعت حماقةٌ وجهلٌ في امرئٍ إلا وكان سخرية، لا أهاجم بقولي أحداً بعينه، بل تفكيراً سادَ بعض العقول.. أفقدها رشدها فلم توفَّق، والأيام تمضي والمشهدُ باتَ مكرّراً، في كلّ مرةٍ يخرجُ مشهورٌ ليُدلي بمعلومةٍ تفضح ضآلة معرفته، وكما عرّتهُ المعلومة.. زادته شهرةً فاتبعهُ من الخلق الكثير ليتندّروا في البداية ثمّ ليدعموهُ ويطبلوا له في النهاية.
كلّ مشهورٍ لهُ مريدون يبررون سقطته، أو يشرحون للناسِ عفوية قوله وأنه لم يقصد، والأدهى أولئك الذين يبررون الخطأ لأنه بشرٌ مثلنا يُخطئ كما يخطئ بعض العلماء أحياناً ويضربون الأمثلة والمقارنات كي تقتنع.
كيف أقارنُ سهو عالِم اجتهدَ طيلة حياته ليُنير للناس عقولهم.. بمن يرى أنّ «التونة» نباتٌ إذا كانت من «مزارع الأسماك»؟ وكيفَ أقارنُ خطأ مؤرخٍ في ترجيح قولٍ على آخر بمن لا يعرف عن الزمن القريب شيئاً حين سألوه عن قامة وطنية كبيرة، وبدلاً من الاعتذار عن الإجابة.. أفتانا فقال باختصار «كان قهوجياً وصار وزيراً».
رحم اللهُ وزيرنا القصيبي حين قال «التخلّف يبقى تخلفاً، نحن في سباق مع الزمن، إما أن نقتل التخلف أو يقتلنا التاريخ» ويبدو أنّ التاريخ حاول قتله هذه المرّة -رغم أنه لم ينجح- لأننا لم نتصدّ للتخلّف كما أوصانا.