عبدالمحسن بن علي المطلق
بالتأكيد طرق سمعك يوماً ( العنوان)، أعني القول بهذا مادي، وذاك معنويّ، وللتقريب نعلم أن الجسد ماديّ، والروح معنويّة، وحسبها أنها هي التي تدبّ بنا الحياة، فبالمختصر إن هناك محسوساً وآخر تستشفّ مواضعه في مرامٍ كُبرى، فحُسن الخلق شتان بينها وبين حَسن الخِلقة، من مثل ما يقال، أي (مثال ليتضح المقال) فلان اسم على مسمّى، كـ (حسن) فهو اسم علم، ثم تجد حامله قد أعطاه ربي درجة من الوسامة وحُسن الإطلالة، أي عدا ما تسنّمه من أخلاق.. فهو «جمع الحُسنيين» حُسن الخلقة والأخلاق معاً، ربما أُوتي حظّاً من دعوة: {اللَّهُمَّ كَمَا أَحْسَنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي}.
والأولى كشاهدٍ ما تلفاه بالآية التي بسطت الغرضين- الطلبين-، حال التدبّر {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ....} (26) سورة الأعراف.
ففيها ذكر نوعين من اللباس، الأول وهو المادي (ما يوارى به السوءات)، والآخر وهو الأجلّ (التقوى)، ثم شددت - الآية- في وضعية الاختيار الإجباري على الأخير بينهما، وإلا فكلاهما مطلب.
ولإبلاغ المرام بالمثال سوف أعضده بآخر، وبه قد أُدغما-الماديّ والمعنويّ- كما بالآية {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ......} (18) سورة التوبة ففي هذه لا شك أو لبس أن العِمارة تقوم بالبناء المادي لبيوت الله، وعمران معنويّ «عبادة» ارتيادها لأداء الصلاة بها حصراً، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من سمع النداء فلم يأتِ فلا صلاة له إلا من عذر)، فتُبنى عندئذٍ بالطاعة، وكل الأمرين كما تُلاحظ متممان بعضهما، فلا لأحدهما من وجود دون الآخر، ولتقريب الأخيرة هذه نجد مريم عليها السلام قد تعجّبت من أمرٍ مُدرك فطرياً: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} (مريم 20)، أي هل تكون أمومةً بلا أبوّةٍ؟
ثم إن من متممات العمران التوقير لها فلا يكون ذاك إلا بالطاعات، فكذلك لا يتحصّل قدرها إلا بالتوقير، للآية (..خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ)، والقاعدة الفقهيّة جلّت لهذه ( ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب) والعمران الماديّ كما هو من خلال بنائها فيتمّ ذاكم بـ(إعلاء) صروحها ومن اللطائف.. ما قيل عن اثنين كانا في سفر، فدخلا إحدى القرى، وشاء أحدهما أن يقضي له شأناً دون إثقال على صاحبه الذي سأله -إذا قضى غرضه - أين يلقاه؟، فقال»بأعلا مكان»، ولم يفطن صاحبه أن ليس بالقرية من مكان شاهق- جبل مثلاً-، فكيف سيجده، هنا عرض الأمر على من توسّم فيه حِكمة، فتلى عليه آية {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ } فأدرك المراد من قول صاحبه، فذهب من فوره للمسجد.
ومن جانب ثريّ لأحد معاني (رفعها)، أي تجنيبها مما يلاك من مباحات أمور الدنيا..
لما جاء عن النبي توبيخاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ فِي مَسْجِدٍ ضَالَّةً فَلْيَقُلْ: لَا أَدَّاهَا اللَّهُ إلَيْك، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا) ، فكأن النص الآخر بقوله: (مَنْ دَخَلَ مَسْجِدَنَا هَذَا لِيَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ لِيُعَلِّمَهُ كَانَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ دَخَلَ لِغَيْرِ ذَلِكَ كَانَ كَالنَّاظِرِ إلَى مَا لَيْسَ لَهُ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ.
وبالمناسبة ما تلفى في طي حديث (سبق درهم ألف درهم)، حتى لقد قال رسول الله ..لذي النورين رضي الله عنه-.. بعد تجهيزه لجيش العسرة- وتباشير الفرح على محيّاه (ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم)، فمما لا شك البتة أن دُريهماتٍ معدودة تأتيك بظروف حالكة قد أحاطت بك.. هي أكثر عدّة من دراهم لا عداد لها وأنت موسرٍ، فما وقع الكثيرة وأنت بخير عميم، أو تزيد عندك من قدر سوى رقم يضاف إلى ما لديك، وحسبنا بسط الآية لهذا {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ...} (10 الحديد).
فهناك من يرى في نصّ تقدم «سبق درهم» إلخ.. قد أتى على وجه التحفيز، أو هي (مبالغة)، بُثّت لتغري الممسك..
لكن هاكم ذاتها بصورة دنيوية صِرفة، فيقال (درهم وقاية خيرٌ من دينار علاج)، ولا يُختلف على صحّة هذه- كمسلّمةٍ-..أن الوقاية أفضل من أي علاج، ففي موجز لهذه الجزئية طيّ جوابٍ لطبيب العرب (الحارث بن كلدة) على سؤال: ما الدواء الذي لا داء فيه؟ بقوله: ( ألّا يدخل جوفك طعام وفيه طعام، فإن إدخال الطعام على الطعام يورّث الأدواء والأسقام)، وأيننا ممن قد يلاجّ بهذه زجر النبي صلى الله عليه وسلّم (.. ما ملأ ابن آدم وعاءً شرّ من بطنه).
هذا، وهناك نصوصٌ أخرى من الكتاب والسنّة توضّح هذا (الفارق)، وبذات الوقت منتصرةً للمعنويّ كما أكدنا، درجة أن من لا يدين بالإسلام يتوقّف لحواجز الثقافة الشرعية التي تحوله عن إدراك باسق مراميها، ما لا يعي من دونها دلالة تلك النفائس والمعالي من أغراض ما ترمِ له، فالأجر الأخروي- مثلاً- لا يزيد أهل الفضيلة وقعاً لديهم إن لم يكن فاعلها مؤمناً بالآخرة، لقوله صلى الله عليه وسلم.. عن ابن جدعان وكان يَقري الضَّيفَ ويُحسِنُ الجوارَ ويصِلُ الرَّحِمَ فهل ينفَعُه ذلك؟ قال: (لا إنَّه لم يقُلْ يومًا قطُّ: اللَّهمَّ اغفِرْ لي خطيئتي يومَ الدِّينِ ).. رواه ابن حبان، بل حتى المؤمن ما لم يقدّم (نيّةً) في هذا العمل أو ذاك..فقد يأتي يوم القيامة ليجد صنيعه أمسى هباءً منثوراً.
فمن لم يتسوّر محراب دنياه مُؤمماً بصنيعه شطر الآخرة للشرط الذي استثنته الآية {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} (112) سورة طه، كما {لا كفران لسعيه، أو جحوداً لأجر صنيعه..} هناك، فيعي فعله هذا عبر آلة الوعي الشرعي لا سواها، من مثل اليقين بما عند الله، وكذا تنسحب تلكم على سمات من ديننا كالبركة، الرضا (ما يوصف بالسلام الداخلي) إلخ.. وأمثال هذه اللاتي تُلامس أحاسيس المسلم بل ونخوة همّته..عن طريق قلبه، لا حواسّه الخمس- مثلاً-، وخذ أكثر حديث (اعلم أن «شرف» المؤمن قيامه بالليل..) ثم زاد بأمر ماديّ مُدرك(..و عزّه استغناؤه عن الناس) صححه الألباني- رحمه الله-.
فيما تجد ما يحمل معناه معنىً آخر (كأنه مدغوماً به)، مثل حديث (من قال هلك الناس..فهو أهلكم) والمعنى له وجهان، فإما أن يكون هو أكثر القوم هلاكاً، أو كان السبب بهلاكهم، وخذ.. من الآية{أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} (الإسراء 16)، أي جعلنا المترفين فيها أمراءها، أو أمْرناهم...
وإليك من جميل ما وُصفت به العشر الأواخر-.. من رمضان-:
مضى معظمه (كمّاً)، وبقي أعظمه (كيفاً).
هنا أطرح عليه العودة لربّه والأوّبة.. أن عساه يتدارك شططه، ووجوه تقصيره.
قل لمن عاد وتمادى واقترف
إن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف
فالكم بالعدد والكيف بالعدّة وفي كننها له الذخر، ومن قبل تورد هذه شحذاً لمن تراخت به همّة من أهمل في أوّله، مخافة أن يتبع إهمال مبتدأ الشهر خواتمه، وكتعويضٍ عما سبق منه من تفريط، ليتدارك من أمره ما يعيد في ذاته نفخ روح العزيمة إن لم تزل متثائبةً، ويؤيد هذا ما قيل عن التوبة الصادقة( خذها غنيمة باردة، أصلح ما بقي- من عمرك- يُغفر لك ما تقدّم من ذنبك)، وأكثر.. أن تنال وعده ب {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}(الفرقان 70)، والآيات على هذا حاثّات، من مثل {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ....} أي زاد تفريطهم و.. {لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ }، وأكّد لهم {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (53) سورة الزمر، فماذا بقي أكثر من هذا التلطّف والجذب و..؟
التوقيع /
هذه ليست مادة علمية، عدا محاولة ترغيبٍ، وتقريبٍ..