كان النجاح الدراسي قبل بضعة عقود له حلاوة وعليه طلاوة، وأعلاه مثمر، وأسفله مغدق؛ لأن «النجاح يولِّد النجاح»، وإنه يعلو ولا يعلو عليه شيء. كان النجاح له طعم شهي ونكهة أحلى من الشهد المصفى، حيث كانت أسماء الناجحين تعلّق في مدخل المدرسة، والطلاب يتزاحمون أمامها قبيل بدء دوام المعلمين وعيونهم تبحلق وتحمر من تزاحم وتقارب السطور، وبعضها تنساب منها الدموع إما من فرحة النجاح وصدمته أو خوفاً من معايرة الآخرين باللمز والنبز من سوء المنقلب من عدم مشاهدة الاسم مكتوباً. وأتذكّر في صغري أن أسماء الناجحين كانت تُذاع في الإذاعة السعودية لطلاب الصفوف الأخيرة من المراحل الثلاث. ثم كانت تعلن في الجرائد إلى عام 1407 لطلاب ثالث متوسط، وإلى عام 1409 لطلاب ثالث ثانوي، فكنا ننتظر على أحر من الجمر وصول جريدة اليوم خاصة منذ ساعات الصباح الأولى فتنفد من البقالات مباشرة. وكنا ننصدم حين نرى عبارة «لم ينجح أحد» تحت أسماء بعض المدارس خاصة المدارس الليلية والانتساب. فتخيّلوا معي مدارس يُصرف عليها ملايين الريالات ونتيجتها ليس صفراً، بل صفراً مكعباً!
بعد مرور السنوات وتبدل أنماط الدراسة والاطلاع على تجارب الدول الرائدة والراقدة في التعليم والانطلاق من تعليم تقليدي محض يبدأ من كتابة النص 20 مرة إلى عقاب الطالب على كل كلمة واحدة خطأ في الإملاء بضربة واحدة إلى استعمال الفلكة في الطابور الصباحي عقاباً للصغيرة أو الكبيرة، وردعاً لكل من ستسوّل له نفسه مستقبلاً التقصير أو الإهمال ولو بغير قصد، فكان نتيجة ذلك أن صار النجاح غربلة وتصفية للطلاب، وفرحة لا تُوصف، وعيد بلا حفلة أو حلوى أو موسيقى أو شيلة، وصار الإكمال ودخول الدور الثاني أو الرسوب حقاً مكتسباً لكل مقصِّر أو مهمل أو طايح حظ طلب العلا فلم يسهر الليالي!
وشيئاً فشيئاً وصلنا إلى مرحلة تقليل عدد الاختبارات الشهرية، وتقليم صفحات المناهج والكتب الدراسية، ثم إلى مرحلة التقويم المستمر الذي بدأ تطبيقه في عام 1420 بدءاً من الصف الأول الابتدائي، ثم الانطلاق إلى بقية صفوف المرحلة الابتدائية رويداً رويداً؛ مما خفَّف على الطلاب ألم الدراسة ومحا قلق الامتحانات، وأدى إلى ضعف مخرجات التعليم في أهم المهارات التي لا يستغني عنها الطالب خاصة في القراءة والكتابة والخط والإملاء والتعبير والرياضيات مما جعل وزارة التعليم تلغيه وتبقيه في الصفين الأول والثاني وبعض المواد، وترجع الاختبارات التحريرية قبل عشر سنوات تقريباً. ومع هذا الإصلاح التعليمي الكبير تمادى بعض الطلاب في غيهم يعمهون، غير مبالين وغير قلقين بالاختبارات؛ لأنهم يدركون أنهم سينجحون ولو سهروا الليالي وتأخروا عن الحصص، وخير دليل حفلات النجاح والتخرّج التي تقيمها المدارس أو أولياء الأمور. كنا سابقاً نشكو من رمي الكتب أو تقطيعها بعد الخروج من الاختبارات مباشرة، الآن نشاهد رمي كتب مواد التقييم المستمر في حاويات جمع الورق قبيل بدء الاختبارات النهائية بأسبوعين وكأن الواحد منهم «حط في بطنه بطيخة صيفي»، أو بلع كبسولة النجاح منذ بدء العام الدراسي، وهو عجل يتخلّص من حمل يقض مضجعه! آه ... كأن العبارة انقلبت من «لم ينجح أحد» إلى «لم يرسب أحد»! فسبحان مغيِّر الأحوال، فالكل ناجح وبتفوّق، فهل صار النجاح حقاً مكتسباً لكل طالب؟ وصار الإكمال ودخول الدور الثاني خطيئة في حق المهمل والمقصِّر؟ وصارت إعادة السنة لهما جريمة وجناية في حقهما؟ أسئلة أتمنى أن نجد لها حلولاً في واقعنا بعيداً عن التنظير.