ما بين ليلة وضحاها مضت أيام رحلة طويلة قضيتها في فرنسا تغمرني ذكريات أحداثها وترافقني ثقة وطني بي كمرساة أثبت بها خطواتي المترددة وأشدد بها عزمي لأواصل المسير.
هذه الرحلة مرت أمام عينيّ وأنا أسير عائدة إلى فرنسا وتحديداً على شارع كورسيل في العاصمة باريس متجهة إلى مقر عملي في أول يوم بدأت فيه العمل في الملحقية الثقافية في باريس حين لمحت راية بلادي ترفرف خفاقة فوق سفارة خادم الحرمين الشريفين في باريس وكأنه يردد قائلاً: إلى من هم أبناء هذه الراية الخضراء أجيبوا نداء العلم والعمل لتغدو مساعيكم شامخة كراية بلادكم. (مارس 2023).
أخذتني الذكرى إلى مراحل الدراسة في فرنسا كمبتعثة ضمن برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث وفي مدينة روان بالتحديد بمنطقة النورماندي غرب العاصمة باريس. حين حصلت على ثقة الوطن الذي آمن بي فكرمني بالعلم ليصنع مني اليوم شخصية متعلمة طموحة لا ترى حدوداً لآمالها، كانت رغبتها إكمال دراستها في تعلم وإتقان اللغة الفرنسية وجعلها تخصصها الدقيق، لترضي شغفها في تعلم لغة الأدب والثقافة وفن الحوار. فحققت وعدي الأول للوطن حين أتممت مرحلة الماجستير بنجاح تلاها الحصول على دبلوم عالٍ في التعددية اللغوية، ثم حققت وعدي الثاني بنيلي شهادة الدكتوراه في علوم اللغة وتحديداً كتخصص دقيق (التعددية اللغوية واكتساب اللغة) من جامعة (Rouen Normandie) وهي الجامعة التي خرّجت العديد من الطلبة السعوديين المتميزين من الذي شغلوا مناصب قيادية ومؤثرة في مؤسساتنا الحكومية. لأعود لأرض الوطن مفتخرة بإنجاز الوعد وتحقيق الحلم في رحلة دراسية جليلة وثرية تخللتها صعوبات وتحديات امتدت إلى «12» عاماً لأجد قائداً ملهماً رسم خارطة التطوير والتنمية ورسم رؤية واعدة كان للمرأة فيها النصيب الأوفر بتمكينها والثقة بها، فكانت جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن التي تعتبر معلماً ومزاراً للعلم والطموح والريادة والتمكين أول خطواتي في مسيرة العمل بعد الدراسة بتعييني أستاذاً مساعداً في كلية اللغات، جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن.
ولأن تجربة الابتعاث الملهمة والمهمة عززت من خبرتي في ممارسة اللغة الفرنسية وفهم ثقافتها ونظامها التعليمي فقد كنت بفضل الله عضواً فاعلاً من خلال قراءة وتطوير النظام التعليمي في برنامج اللغة الفرنسية في كلية اللغات بجامعة الأميرة نورة. وحظيت بفرص ثمينة من معالي رئيسة جامعة الأميرة نورة أ. د. إيناس العيسى بالمساهمة في تعزيز الشراكات وتعريف الوفود العالمية وخاصة ممن يتحدثون الفرنسية على الجامعة وما تملكه من إمكانات ومرافق نوعية كمركز المحاكاة وتنمية المهارات والمكتبة المركزية وغيرها. والأهم في فترة عملي هذه هي بناء العلاقات مع زميلاتي القديرات وتقاسم الإصرار على التطوير والعمل على ما من شأنه النهوض بالجامعة مما ينعكس على الوطن.
ولأن الوطن معطاء وقيادته تؤمن بالمرأة باعتبارها شريكاً أساسياً في تحقيق التقدم والنماء ويرى في سيدات الوطن نور العلياء ينطلق في سماء التميز فقد جاء القرار من معالي وزير التعليم الأستاذ يوسف البنيان، الذي حظيت بشرف مرافقته لاستقبال الوفود والعمل على تعزيز الشراكات للدول والمنظمات مع وزارة التعليم، بتعييني بالملحقية الثقافية في باريس مساعداً للملحق الثقافي، لأُكمل وأُثري رحلتي وثقة وطني الغالية ترافقني لأمثله خير تمثيل.
لقد انتقلت من كرسي الدراسة إلى كرسي المسؤول وبارك لي وطني هذا النجاح بهذه الثقة المطلقة والفرص العظيمة التي خصني بها لكي أثبت لوطني أن إيمانه بأبنائه ومساعيهم الريادية لم يذهب سدىً، وأن ما بذلت لهم من جهود كانت في المحل الصواب وأنهم اليوم ممتنون لهذا العطاء اللامحدود الذي يضخ لأجلهم ولديهم شرف الاستحقاق ليكونوا خَيْرَ من يمثل راية بلادهم في المحافل المحلية والدولية. وهنا أقول إن أولى المحطات التي ارتكز عليها نجاحنا هو الدعم السخي من لدن مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده رئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان حفظهما الله بمنحهما الثقة بقدرات وكفاءات أبناء هذا الشعب بتهيئة المناخ لصقل شخصياتنا ومنحنا فرص التعرف على ثقافات ولغات شعوب العالم وخوض الحوارات الثقافية المثمرة واحترام الآخر وآرائه.
لقد ألهمتني هذه القيادة الرشيدة بأن أكون سيدة سعودية فخورة، مجتهدة، تمثل المرأة السعودية وتعزز حضورها بالشكل الذي يليق بوطنها وقيادته ووفق مبادئه السامية. سيكون هدفي أثناء عملي في الملحقية الثقافية في باريس التأكيد على مكانة هذا الوطن والمساهمة في تطوير منظومة العمل بخدمة أبنائنا وبناتنا من خلال برنامج الابتعاث بمختلف مساراته وجامعاته وتوعيتهم بسبل تحقيق النجاح ورسم مستقبل واعد لهم.
ويظل السؤال يتردد دون إجابة شافية: هل يُرد جميلك يا وطني؟ فالعطاء فاق الوصف فما كان حلماً الأمس أصبح واقعاً اليوم. وفي ظل هذه السخاء والاهتمام بالوطن والمواطن الذي جعلته القيادة الرشيدة أهم مسؤولياتها، نسأل الله جلت قدرته أن يحفظ لنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان وأن يديم علينا نعمة الأمن والأمان والعيش الرغيد.
** **
د. عبير بنت دخيل الدخيل - مساعد الملحق الثقافي بالملحقية الثقافية السعودية في باريس وسويسرا