عالم الإدمان عالم سوداوي، وجحيم قاتل، لا يشعر بتأثيراته المدمرة إلا من اكتوى بناره، والحق إن تأثيراته المدمرة لا تستهدف المدمن وحده، بل الحياة الإنسانية بأسرها، وقد كشفت معظم البحوث الاجتماعية في مجال الإدمان عن أن الظروف الاجتماعية المحيطة بالفرد تترك بصماتها في بناء شخصيته وتكوين توجهاته ودوافعه، ولما كانت الأسرة بالنسبة لأبنائها الملاذ الآمن، وهي التي تقوم بالدور الأكبر في عمليات التنشئة الاجتماعية، وبناء الشخصية وتوجيه السلوك، فإن ظواهر الانحراف الاجتماعية التي قد يتسم بها سلوك بعض أفراد الأسرة تلقي بظلالها السوداء على الأبوين، وتشير إليهما بأصابع الاتهام، وتكشف عن الدور المتخاذل الذي يؤديانه نحو أبنائهما.
وتشكل ظاهرة الإدمان في العالم إحدى الظواهر الوبائية التي تستهدف تدمير الفرد والجماعة في أي مجتمع بشري، وهي مشكلة اجتماعية خطيرة قادرة على تدمير بنيان أية أمة، لأنها تستهدف في الأساس شريحة الشباب، وهم عصب التنمية وسواعد الإنتاج والقوة البشرية في كل زمان ومكان، ومما يزيد الكارثة تفاقمًا وخطورة ظهور تجار ومروجين جدد، يطوعون أموالهم الطائلة وتقنياتهم العالية في الترويج لها، وإغراء الشباب بها.
وقد أكدت جميع بحوث الإدمان على أن الأسرة تلعب دورًا جوهريًا في جنوح أو عدم جنوح الأحداث إلى تعاطي المواد المخدرة، ومن بين تلك البحوث دراسة أجريت في الأرجنتين على جماعة من الأحداث بقصد التعرف على تأثير الأسرة في إقدام أفرادها على الإدمان، وكشفت الدراسة أن عددًا كبيرًا من الأحداث قد اكتسبوا معرفة العقاقير النفسية من خلال العقاقير الطبية التي يصفها الطبيب لأحد الأبوين، وأن صفاتٍ محددة تتسم بها الأسر التي يشيع بين أفرادها إدمان المخدرات، وهي: المناخ الأسري غير المستقر، والتصدع الأسري الناشئ عن الهجر أو الطلاق، جنوح أحد الأبوين أو كليهما نحو الإدمان.
كما أكدت تلك البحوث على أن الرقابة الأسرية، والإرشاد الأبوي السليم يقللان من فرص احتكاك أفراد الأسرة بالجماعات المنحرفة، وتحصنهم من الوقوع في مزالق الإدمان (الركابي، 2011، ص79). وهنا يبرز دور الأسرة حيث تلعب الأسرة دورًا جوهريًّا في وقاية الأبناء وتحصينهم ضد التيارات والأفكار والظواهر الهدامة، ومنها ظاهرة تعاطي المواد المخدرة، وقد يشار إلى الأسرة نفسها بأصابع الاتهام حين يكون لها الأثر السلبي في جنوح أفرادها إلى الإدمان؛ فالنسيج الأسري وما قد يحويه من تناقضات قد يمارس تأثيرًا سلبيًّا في توجه الأبناء نحو الإدمان.
ومن البديهيات أن الأسرة هي خط الدفاع الأول لوقاية الأبناء من خطر تعاطي المواد المخدرة، فهي المناط بها القيام بتنشئة الأبناء تنشئة سليمة، وفرض الرقابة الرشيدة، مع إكسابهم الخبرات والمهارات التي تزيد من ثقتهم بأنفسهم وتعلقهم بالقيم السوية، وترتكز خطط الوقاية الأسرية في الأساس على تعليم المراهق احترام دينه وجسده، وغرس قيم الحياة الصحيحة.
وتعتبر الأسرة من أعظم الجماعات الإنسانية تأثيرًا في حياة الفرد والجماعة، وهي المناط بها بناء وتدعيم وحدة المجتمع وتماسكه وتنظيم سلوك أفراده بما يتلاءم مع النمط الحضاري العام ويتسق مع قيم الجماعة وأعرافها العامة؛ لهذا فالمجتمع يولي الأسرة اهتمامًا كبيرًا، ويتوقع منها أدوارًا تربوية مثالية في توجيه أفرادها (الحمدان، 2022).
وما من شك في أن المناخ الأسري سواء أكان مناخًا صحيًّا أو غير صحي هو الإطار الذي يتحدد داخله شخصية الفرد وسلوكه، وعليه فإن أفراد الأسرة في أمس الحاجة إلى أجواء أسرية تمنحهم الشعور بالتوافق الأسري والصحة النفسية السليمة، والمحبة المنضبطة؛ فينعكس ذلك على سلوكهم، وينمي لديهم المهارات الحياتية التي تساعدهم على مسايرة الحاضر، والتواؤم مع المستقبل (الزواهرة، والتخاينة، 2022)
أخيرًا نخلص للقول بأنه إذا استطاعت الأسرة القيام بعملية التنشئة بطريقة صحيحة، كان ذلك نجاحًا للفرد والمجتمع، وإن لم تتمكن من تحقيق الاستقرار النفسي والاجتماعي والعقلي لأفرادها أدى ذلك إلى انتشار مثل هذه الظواهر المرضية والمشكلات التي تعيق عملية التنمية في كل مستوياتها. وعليه لا بد من:
- الحفاظ على الاستقرار العام للأسرة حتى يتوفر الجو الملائم والهادئ للأبناء.
- النقاش والحوار الهادئ الودود من قبل الأبوين مع أبنائهم عن مختلف المشكلات والظواهر المتفشية لإعطاء نظرة صحيحة غير مزيفة، بلغة مبسطة تتناسب وأعمارهم المختلفة .
- وعي الأسرة بالمتغيرات والتطورات الحاصلة في المجتمع.
- بناء القدوة الحسنة التي يستضاء بها في تكوين شخصيات الأبناء وفي سلوكهم وطرق تعاملهم مع الآخرين.
- اعتماد أساليب تربوية سليمة بعيدة عن العنف والقسوة.
** **
أستاذ مساعد - كلية الآداب - قسم علم الاجتماع - جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل