د. تنيضب الفايدي
مرّ الظهران وادٍ معروف يمرّ به الطريق من المدينة إلى مكة، وهو إلى مكة أقرب، وكان الحجاج قديماً مع عناء السفر ومراحله المتعددة وطول المسافة يشعرون بالتعب والإعياء، ولكن عندما يصلون إلى مرّ الظهران يشعرون بالفرحة لقربهم من بيت الله الحرام. ويجري وادي مرّ الظهران من الشرق إلى الغرب، بادئاً من أعالي السراة قرب الطائف لينتهي عند بلدة بحرة بين جدة ومكة، ويأخذ روافده من المنحدرات الشرقية لجبل (كرا). وقد مرّ هذا الوادي بمسميات عديدة على مدى التاريخ، منها: وادي فاطمة، وادي الشريف، ووادي الجموم، وقد نال شهرة واسعة منذ القدم في النشاطات التجارية والزراعية، ففي العصر الجاهلي شهد هذا الوادي نشاطاً تجارياً خاصةً لوقوعه على الخط التجاري بين مكة ويثرب، وفيه كان يعقد سوق مجنة، وقد مرّ بهذا الوادي رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما خرج إلى الشام للتجارة، كما نال شهرة كبيرة في الزراعة وذلك لخصوبة الأرض ووفرة المياه في عيونه الغزيرة، يقال إن فيها نحو 300 عين، وقد أدرك أحد المؤرخين من المتأخرين (الشيخ عاتق البلادي رحمه الله) (36) عيناً.
كما عنيت كتب السيرة والتاريخ بهذا الوادي في مواقع متعددة، فقد روى البخاري بسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل في المسيل الذي في أدنى مرّ الظهران قبل المدينة حين يهبط من الصفراوات، ينزل في بطن ذلك المسيل عن يسار الطريق وأنت ذاهب إلى مكة، ليس بين منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الطريق إلا رمية حجر. والصفراوات هي الجبال التي تقع شمال وجنوب (الجموم) حالياً.
وتذكر كتب السير أنه صلى الله عليه وسلم نزل عام الفتح في هذا الوادي مع عشرة آلاف مقاتل، قال ابن كثير: (حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين)، وروى البخاري ومسلم عن أبي سلمة عن جابر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران نجتني الكباث وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عليكم بالأسود منه فإنه أطيب قالوا يا رسول الله أكنت ترعى الغنم قال نعم وهل من نبي إلا وقد رعاها. ويذكر المؤرخون في غزوة فتح مكة أنه في هذا الصباح - صباح يوم الثلاثاء للسابع عشر من شهر رمضان سنة 8 هـ - غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران إلى مكة، وقد نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران عشاء فأمر الجيش فأوقدوا النيران، فأوقدت عشرة آلاف نار، وجعل رسول الله على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه. تسهيل الوصول للكاتب (ص433). وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما وصل مرّ الظهران عين القادة وقسم الجيش إلى ميمنة وميسرة وقلب، فكان ابن الوليد على المجنبة اليمنى، والزبير على المجنبة اليسرى، وأبو عبيدة على الرجالة، وكانت راية الرسول صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض.
ونظراً لشهرته فقد عرف مرّ الظهران (الجموم) أكثر المؤرخين، يقول الحموي في معجم البلدان (2/ 190): «الجَمُوم ماء بين قباء ومرّان على طريق مكة من البصرة، وقيل: أرض لبني سليم، وبها إحدى غزوات النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إليها زيد بن حارثة غازياً. وأورد البكري شاهدها لجرير قال:
ذكرتك بالجموم، ويوم مروا
على مرَّان راجعني ادكاري
وذكر السهيلي صاحب كتاب الروض الأنف بأنه وادي مرّ الظهران سمي مرّاً؛ لأن في عرق من الوادي من غير لون الأرض شبه الميم الممدودة بعدها راء خلقت كذلك، ونقل هذا التعريف الفاسي في كتابه شفاء الغرام، أما ابن كثير فيذكر بأنها سميت مرّاً لمرارتها (أي: مرارة مائها)، ونقل الحازمي عن الكندي أن مراً اسم للقرية والظهران للوادي، وقال البكري: بأن المسافة بين مرّ إلى مكة ستة عشر ميلاً وقيل: ثمانية عشر ميلاً وقيل: إحدى وعشرون ميلاً (قبل اتساعها)، هذا كلام البكري، والميل (1848) متراً، ويقول الحموي: مرّ بالفتح الحبل الذي قد أحبك فتله، ويجوز أن يكون منقولاً من الفعل مر يمر ثم صير اسماً، ومرّ الظهران موضع على مرحلة من مكة له ذكر في الحديث، وقال عرام: مر القرية، والظهران هو الوادي وبمرّ عيون كثيرة ونخل وجميز، قال أبو صخر الهذلي يصف سحاباً:
وأقبل مراً إلى مجدل
سياق المقيَّد يمشي رسِيقا
وقد ذكر الشريف الفاسي في كتابه شفاء الغرام بأن مرّ الظهران تشتمل على عدة قرى كثيراً فيها نخل وأشجار وعيون جارية، وتوسع ابن فهد (جار الله محمد بن عبد العزيز بن عمر بن فهد القرشي الهاشمي ت: 954هـ) في وصف وادي مرّ الظهران في كتابه (حسن القرى في أودية أم القرى) وفي عهده يطلق على مرّ الظهران وادي الجموم، توسع كما قلت سابقاً في ذكر الجموم أو مرّ الظهران ووصفها بما فيها من البناء ولا سيما مسجدها وبركة كانت فيها، كما وصفها صيفاً وربيعاً، كما ذكر الحربي في كتابه المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة (ص315) اسم مرّ ولكن أضاف إليها كلمة بطن (فأصبح اسم الوادي بطنُ مرّ)، حيث ورد في كتابه المذكور:
ثم استنقلوا نحو بطن مرّ
وذاك في آخر وقت الظهر
فدخلوا مرّاً ملبينا
ثم أتو مكة محرمينا
وقال الشاعر:
حل بمرّ الناعجات العين
ناديت صحبي: إنني رهين
فقلت باس الله فاستعينوا
إذا أردتم سفراً فكونوا
مهذبي السير، ولا تلينوا
فبطن مرٍّ دونه حزون
وقال الشاعر:
ثم رحلنا لبطن مَرّ
نصدرها إلى طريق البِر
لنستتمَّ الحج بالممرّ
بالمصطفى الهادي الصدوق البَر
مستودعاً في خير مستقر
في روضة من ورقٍ مخضر
كما ورد كلمة بطن مرّ في شعر الشيخ بدر الدين بن جماعة عند وصفه لطرق الحج، حيث قال:
وفي بطن مرّ قد نزلنا عشيةً
ومن مكة لاحتْ بروق سناها
وقرَّتْ نفوس كان أقلقها النوى
وزال لعمري بؤسها وشقاها
وذكر بطن مرّ في أرجوزة تبين أسماء المنازل المصرية حتى مكة المكرمة:
ثم قُديد بعدُ يا رفيقي
من بعدها ترقى إلى السويق
وفي خليص سر ولا تعرج
من بعدها تأتي إلى المدرج
منه إلى عسفان ثم المنحنى
وبطن مرٍّ بعدها نيل المُنى
تسيرُ تلقى مسجد الميمونة
خير النساء أمّنا المصونه
وبعده المساجد المشهوره
لأمنا عائشة المذكوره
فطب إذن نفساً وقرِّ يا أخي
عيناً وتأتي في سبيل الجوخي
بمكة يفرح قلب المنكسر
فكل مكسورٍ هناك ينجبر
وقد ذكر الجزيري عدداً من الأبيات فيها ذكر مرّ الظهران حيث يذكر قصيدة شرف الدين عمر بن الفارض وهو يذكر محطات رحلات الحج، منها مر الظهران:
وسلكتَ النقا فأردان ودَّا
نّ، إلى رابغ الرَّوي الثمادِ
وقطعت الجرار عمدا لخيما
تِ قديد، مواطن الأمجاد
وتدانيْتَ من خليص فعسفا
نَ فمرَّ الظهران ملقى الوهاد
ووردت الجموم فالقصر فالدكنا
طرّا مناهل الروادِ
ويقول قاضي المالكية شرف الدين أبو القاسم واصفاً وادي الجموم وبعض عيونه:
لله يوم به جادت يد الزمن
طاب المقيل بواديها البهى الحسن
وادي الجموم الذي يزهو بجارية
له بمنظرها بشكو الشجى الشجن
لما جرت ما بيننا على تلك الـ
ـمعاهد منها نفسها العدني
سقيا لها كم سقينا الأنس راحتها
في ظل مسجدها المعهود بالمنن
قضيته بأحيباب محاسنهم
تسلى الغريب عن الأهلين والوطن
وقد جاء مرّ الظهران في الأدب كثيراً، قال عون بن أيوب الأنصاري الخزرجي:
فلما هبطنا بطن مرٍّ تخزَّعت
خُزاعة منا في حلولٍ كَرَاكِرِ
حمتْ كل وادٍ من تهامةَ واحتمتْ
بصمِّ القنا والمرهفات البواترِ
خُزاعتنا أهل اجتهادٍ وهجرةٍ
وأنصارُنا جند النبيّ المهاجرِ
وقال الكميت في نونيته المشهورة:
ونحن الرافدون غداة مرّ
خزيمة بالذي لا ينكرونا
تباشر إذ رآنا أهلُ مرٍّ
فكذبنا منى المتباشرينا
قال عمر بن أبي ربيعة:
وقلت لأصحابي: انفروا إن موعداً
لكم مرّ فليرجع على حكيم
ويقول عمر أيضاً:
قل للمنازل بالظهران قد حانا
أن تنطقي فتبيني القول تبيانا
قالت: من أنت قل لي؟ قلتُ: ذو شغفٍ
هاجتِ له من دواعي الشوق أحزانا
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
فلما هبطنا بطن مر تخزعتْ
خزاعةُ عنا في الحلولِ الكراكر
وهناك العديد من القصائد الشعرية الممتعة تتعلق بوادي مرّ الظهران أو وادي الجموم أو وادي الشريف قد يتم جمع تلك القصائد وبقية المعلومات وتصدر في كتاب إن شاء الله حيث اجتمعت في هذا الوادي: جمال الطبيعة، وروعة الأدب -شعراً ونثراً- والخلق الرفيع لسكانه إن وهبني الله بقية في العمر.