العقيد م. محمد بن فراج الشهري
ترتبط أهمية هذا التساؤل بأن منظمة جامعة الدول العربية كانت إحدى الأطر التي سعت الدول العربية في فترات سابقة للاعتماد عليها في إنشاء ترتيبات جماعية تضم الدول الأعضاء في المنظمة، ولكن طبيعة هذه من حيث الصلاحيات الممنوحة لها ونظام التصويت فيها وميزان القوى بين أعضائها لم يمكنها من قيادة بناء تصورات جماعية للدول الأعضاء تجاه ما يعد مصدر تهديد لأمنها الجماعي وصياغة أطر جماعية فعالة تتصدى لتلك التهديدات المنصورة، وهذا ما تفيد به حالة اتفاقية الدفاع العربي المشترك ومقترح مصر الخاص بإنشاء قوات مشتركة لمكافحة الإرهاب في السابق.
من ثم من المتوقع أن أي محاولات مستقبلية لإضفاء دور ما على جامعة الدول العربية في مجال إنشاء ترتيب أمني جماعي لن تكلل بالنجاح بسبب التنافس والصراع بين الدول العربية واختلال ميزان القوى بينها.
بعبارة أخري متوقع أن تتجه دول المنطقة لإنشاء أي أطر مستقبلية للأمن الجماعي خارج إطار الجامعة العربية وبعيداً عن ميزان القوى السائد داخل الجامعة بين دولها الأعضاء.
هذا التوقع حال تحققه سيجعل الجامعة العربية منظمة تعنى بالتنسيق السياسي بين الدول الأعضاء في القضايا التي تقبل هذه الدول أن تكون على جدول أعمال الجامعة العربية وفي حدود التوجهات السياسية العامة المشتركة للدول الأعضاء.
التساؤل الآخر: هل تكون ترتيبات أمن إقليمية أم ترتيبات أمن متعددة الأطراف؟
بالنظر إلى الثقافة الأمنية الجديدة الموجودة في المنطقة، فإن أي ترتيب مستقبلي للأمن الجماعي في المنطقة لن يشمل بالضرورة كل الدول العربية الأعضاء في منظمة جامعة الدول العربية، أي أنه لن يكون ترتيباً إقليمياً بمعنى شموله مجمل الدول العربية في المنطقة ويستبعد أي دول غير عربية وفي المقابل فإنه متوقع أن يكون ترتيباً أمنياً متعدد الأطراف يرتكن إلى مركب أمني يشمل عدداً من الدول العربية مع أخرى غير عربية لديها تصورات أمنية مشتركة تتماشى مع الأمنية الجديدة في المنطقة.
وتؤدي الثقافة الأمنية الجديدة في المنطقة دوراً مهماً في تحديد الأطراف الأعضاء في أي ترتيب أمني مستقبلي. فاتساقاً مع هذه الثقافة يتعين أن يجمع مختلف الأطراف تصورات مشتركة حول قضية محددة تمثل تهديداً ما وفرصة ما وليس على دولة عدو، وتتبنى مفهوماً شاملاً للأمن يجمع بين المجال العسكري السياسي والمجالات البيئية والصحية والتكنولوجية والاقتصادية وغيرها. وتمتلك القدرة السياسية على نسج علاقات مصلحية تستند إلى مكاسب متبادلة مع أي دولة تتشارك معها في التصورات الأمنية.
في هذا الإطار، وبالرجوع لنظرية باري بوزان فإن من المتوقع أن تشهد المنطقة خلال الفترة المقبلة كذا مركب أمني يهتم كل منها بقضية محددة تمثل تهديداً ما وفرصة ما في الوقت ذاته، ولكل منها آلية أو إطار يوظف أدوات متعددة للتعامل مع القضية التي هي محور التفاعلات الأمنية بين الدول الأطراف في المركب الأمني. دون أن يتطلب ذلك أن تكون تلك الأدوات بالضرورة أدوات عسكرية تأخذ شكل قوة مشتركة أو جيش مشترك كما كان مطروحاً في إطار منظمة جامعة الدول العربية خلال الفترات السابقة.
ومن الأهمية بمكان توضيح أن عضوية أي دولة في أي من الآليات الأمنية متعددة الأطراف المعنية. تمنعها من عضوية آليات أخرى تعنى بقضية أخرى مادام يتماشى ذلك مع التصورات الأمنية السائدة لديها. واتساقاً مع هذا التوقع، فإن الحديث عن دولة قائد تتولى بناء تصورات أمنية مشتركة بين دول المنطقة لتكون مرتكزاً للآلية الإقليمية للأمن الجماعي لا يتماشى مع الثقافة الأمنية الجديدة في المنطقة التي تسمح مع تنوع ترتيبات الأمنية متعددة الأطراف، بوجود أكثر من دولة واحدة تمارس دوراً قيادياً في قضية ما هي موضوع الترتيب الأمني متعدد الأطراف الذي هي عضو فيه، وترتكن قدرتها على القيادة في هذه الحالة بقدرتها السياسية على نسج علاقات مصلحية تستند إلى مكاسب متبادلة مع كل الدول الأعضاء معها في الترتيب الأمني ذاته.
يتصرف العامل الأول إلى الأدوات المستخدمة في ترتيبات الأمن الجماعي التي ستنشأ في المستقبل. كما شهدت المنطقة طوال العقود الماضية محاولات لإنشاء ترتيبات أمن جماعي عكست في مجملها مفهوماً ضيقاً للأمن يركز على المجال العسكري السياسي، ويتعامل مع الأداة العسكرية على أنها الأداة الرئيسية التي من خلالها ستتم مواجهة والتصدي لأي تهديدات يتعرض لها أمن المنطقة. لذا، كانت آليات الأمن المطروحة حينها تأخذ شكل جيش مشترك، أو قوة مشتركة، أو حلف كما في حالة حلف بغداد.
وفي ظل وجود ثقافة أمنية جديدة في المنطقة من المتوقع أن أي ترتيب للأمن الجماعي سينشأ في المستقبل لن يرتكن إلى الأداة العسكرية فقط كونها غير فعالة في التعامل مع الجوانب غير العسكرية للأمن التي بدأت تهتم بها دول المنطقة في تبنيها مفهوماً واسعاً للأمن. في هذا السياق من المتوقع أن تعتمد ترتيبات الأمن الجماعي المستقبلية على طائفة متنوعة من الأدوات التي تتناسب مع القضايا التي هي موضوع تلك الترتيبات وتشمل أدوات اقتصادية وتكنولوجية وسياسية وبيئية وصحية، مع تنامٍ واضحٍ لدور القطاع الخاص في إتاحة هذه الأدوات للدول الأعضاء في تلك الترتيبات من ثم لن تكون مقدرات القوة التي تمتلكها الدولة العامل الرئيسي في تحديد أدوات ترتيبات الأمن الجماعي المستقبلية، ولكن أيضاً مقدرات القوة التي تمتلكها شركات القطاع الخاص بما في ذلك الشركات متعددة الجنسيات.
يتعلق العامل الثاني والأخير باستمرار محورية تأثير الولايات المتحدة في أي ترتيبات أمن جماعي قد تنشأ في المستقبل. فقد شهدت المنطقة طوال العقود الماضية نوعين من المحاولات لتطوير ترتيبات أمن جماعي في المنطقة، قاد النوع الأول من المحاولات الدول العربية التي سعت لإنشاء ترتيبات أمن تشمل الدول العربية الأعضاء في منظمة جامعة الدول العربية، وقادت الولايات المتحدة النوع الثاني من المحاولات التي هدفت إلى إنشاء ترتيبات جماعية تشمل دولاً عربية مع أخرى غير عربية فاعلة ومؤثرة في منطقة الشرق الأوسط.
وحتى المرحلة الراهنة لا تزال المحاولات الأمريكية مؤثرة في مجمل التفاعلات الأمنية في المنطقة، وهناك أمثلة عدة على ذلك، ومن غير المتوقع أن يتراجع تأثير الولايات المتحدة خلال الفترة المقبلة، لاسيما أن بعض آليات الأمن الجماعي متعدد الأطراف التي استحدثت في المنطقة خلال السنوات السبع الماضية كانت واشنطن طرفاً فيها أو غير معترضة عليها.
يحمل هذا الملمح في طياته تحدياً لدول المنطقة، نتيجة أن التصورات الأمنية التي يستند إليها المشروع الأمريكي المطروح حالياً من جانب إدارة الرئيس جو بايدن والمشروع الذي طرحته إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب يقوم على تصور الدولة العدو التي يتعين التصدي لها عسكرياً. في حين أن الثقافة الأمنية السائدة في المنطقة تخطت هذه التصورات الأمنية الضيقة وأصبحت تدرك إمكانية الاعتماد على الحوار والتفاوض والمحادثات من أجل احتواء السياسات الخارجية التي تهدد الأمن والاستقرار في المنطقة.
إلي جانب ذلك، أصبح هناك توافق جماعي محدود بين دول المنطقة حول أن التهديدات والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية عابرة الحدود تحتاج إلى تحرك جماعي غير تقليدي يقوم على توظيف التكنولوجيا الحديثة وتوظيف قدرات الشباب والمرأة من أجل ضمان الاستقرار والأمن الإقليمي بشكل مستدام.
ومن المتوقع أنه قد تستمر خلال الفترة المقبلة، هذه الفجوة بين التصورات الأمنية الأمريكية لمستقبل المنطقة وتصورات دول المنطقة بخصوص كيفية إنشاء آليات تحقق الأمن الجماعي، على نحو قد يؤثر في تفعيل وديمومة أي آلية للأمن الجماعي متعدد الأطراف، تسعى دول المنطقة لإنشائها في المستقبل.