د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
في كثير من الأحيان ترتبط الخطوات الممهدة للمنجزات ببعض القفزات في الهواء؛ وقد تكثر الفجوات نتيجة للرؤى الهشة لآليات العبور، وبما أنَّ القوانين اليوم ربما اخترقها حضور المكان والمكانة، وحتى لا ترهقنا الأماني؛ لابد أن نسعى لالتماس الأهداف أكثر من البحث في خطوات جديدة؛ باعتبار أنَّ كسب الرهان بهدف الصعود هو ما يجب أن تنصهر فيه كل الحكايات المتممة للمنجز البشري؛ وتلك رؤية مشتركة بين جلِّ الموضوعات المتواشجة مرجعياً في كثير من قطاعات العمل التي ربما يكون في بعضها ترهل وصفي لمقومات النجاح وأدواته؛ مما أشار إليه العزيز الحكيم {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء} 39 سورة النور.
ومما يدور في ذلك السياق:
أعُيذها نظرات منك صادقة
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورمُ
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره
إذا استوت عنده الأنوار والظلمُ
وتقع خلف مقومات النجاح، والعبور المنظم للغايات النبيلة، واقتناص سمين الأهداف وثمينها، ووهج النجاح وزهوه، وارتياد الحياة العريضة، أركان وواجبات قابلة للتقييس؛ تحيطها الأسوار المانعة، والأطر التي تهب منها النسائم لتحمل الإضاءات للمنهجيات الصحيحة للعمل المؤسسي الخالد. نعم إن خلود العمل يعني ميلاداً متجدداً للحياة المثمرة؛ يخطف من التفاصيل والصور زوايا للصعود في الحاضر والمستقبل، وطروحات تسطرها الأفهام والأقلام.
فعندما قرر أفلاطون بعد انتحار أستاذه سقراط، ألا يخاطب الناس مباشرة إلا من خلال القلم، وهو من انشغل بالجمال والخير في الحياة؛ وكان جلّ بحثه عنهما؛ فإنه كان يسعى إلى تصميم نوع من النظام الثابت؛ وهي خصيصة جيدة؛ ومنهج حريّ به أن يُدعم في قطاعات العمل المختلفة، حتى لا تتساقط النفوس حين الإفراط في التعامل المباشر مع البشر. وعندما حرّر أفلاطون نظاماً للعدل، وربطه باستقرار الحياة؛ فإنه صمم بذلك إطاراً لتصنيف البشر وفق قدراتهم وخبراتهم؛ وأمام أعين الناس، وفي أعماق نفوسهم؛ أورد رب العزة والجلال في محكم تنزيله رصداً سماوياً للقدرة والخبرة {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} (34) سورة القصص.
وحيث إن البنية الأولى لإتمام الغايات والأهداف هي الموارد البشرية المحركة لكل فن ومنجز، وأنَّ لكل اختصاص قوانينه الأساسية؛ فإن الأكثر إلزاماً وهيمنة هو قانون الخبرة، وحتمية وجودها في ارتياد ذلك المضمار دون سواه؛ فالمتسابق للتربع في المكان عليه أن يتوجه إلى طبيعة المهمة التي لبسها قبل أن يتوجه إلى اشتياق نفسه لها؛ حيث إن مصطلح الخبرة والخبير وممارسة التعامل والعمل وفق مخزونهما؛ لابدّ فيه من التتابع للمعارف المتعددة في العقل البشري وممارستها في المجال ذاته، فليس كل من دخل مضماراً لبس خبرة المضمار بمجرد دخوله فيه، ومن ثم تجرأ على الفتوى في دقائقه ودهاليزه.
والخبرة المهنية بمفهومها الواسع في كل المجالات والممارسات شريانها المعرفة التخصصية؛ وهي ما تعطي صقلاً أبعد للبنية التي يقوم عليها التماثل بين الهدف وصانعيه؛ فالخبرة تقترح العمل وليس العمل من يقترح ويصنع الخبرة؛ ولذا فإن قطاعات الأعمال ومؤسساتها إذا ما أرادت أن تبني النظام؛ وتصمم أدوات الفعل والفاعل فيه؛ فإنها لا بدَّ أن تصنع التحاماً بين خبرة الصانع والصناعة، وأن يمتد التحامهما إلى مفاصل النتائج والبشارات؛ وألا تكون الاستجابات السطحية للقدرات الظاهرة إعلاناً يخبرنا عمَّن يجول في غير مضماره؛ ثم يصنف من خبرائه وجهابذة الصناعة فيه؛ ويحتكم إليه ومنه؛ ناهيك عن قيادة مناراته ومؤتمراته، ومجاهر استكشاف تلك الصناعة؛ وحتماً فإنه رغم اكتمال أدوات الرحلة أمامنا نهايات مغلقة.
فإن كان أولئك كواكب الأعمال، ورافعو راياتها؛ يفتون وهم لا يعلمون، فلنتمهل! فما زلنا مع العائدين؟!
فالأهداف العميقة تستلزم رؤى عميقة ومحكمة؛ وإلاّ استمرت الأهداف في منافيها حيث تقودها خبرات تنافيها؛ ومعارف تبرأ منها براءة الذئب من دم يوسف.
وفي محيطنا الاجتماعي؛ كم نتعجب من الوافدين إلى بلادنا من أصحاب المهن البسيطة؛ الذين يسترقون السمع؛ فيعلمون أن المفاتيح لدينا تفتح كل الأبواب؛ ولذلك يركبون جلّ الصنائع؛ والدهشة الكبرى هي ما ينتظرنا من أولئك من نتائج مشنوقة؛ نحن من وجهّنا بجلبها من موانئها القصية؛ وكان المشهد سوف ينعم بقدر من الحياة لو كانت بدائلنا ملأى بما يقيم ويستقيم من الخبرات التخصصية؛ فكيف تكون مواقعنا ذات المهام العظيمة مستراداً للتجارب الخاسرة؛ ومجالاً رحباً للتفاوض من أجل البقاء؛ وإن كان أبطالها نحن وهم!
هي لحظات تذكير من غفوة النسيان تمثّل بها غيرنا فاستعنا بها على حوائجنا الملحّة» وما عُلّم الإنسان إلا ليعلما».