د.محمد بن عبدالرحمن البشر
قصة جرت بين الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو غني عن التعريف، وبين عمرو بن معد يكرب، الفارس المخضرم، وقبل أن ندلج في الحديث إلى ما نصبو إليه، سوف نومئ ايماءة سريعة إلى الواو الزائدة في عمر، وهي واو كتبت عمدا للتفريق بين عمر وعمرو، حيث لم يكن في ذلك الوقت تشكيل يغني عن الواو الزائدة، وهذه الواو الزائدة استخدمها ابن زيدون في رسالته الهزلية التي أرسلها مستهجناً على لسان ولادة بنت المستكفي إلى الوزير بن عبدوس منافسه على قلب ولادة، حيث قال فيها، وأنت كالواو الزائدة في عمر، أي أن وجودك ليس له اعتبار.
وعمرو بن معد يكرب، فارس من فرسان العرب المشهورين في الجاهلية والاسلام، وكان جسيماً، طويلاً، مقداماً، أكولا، وهو ابن خالة الزبرقان بن بدر التميمي، أحد زعماء قبيلة تميم المشهورة، وأخته والدة دريد بن الصمة الشاعر المشهور أما هو فينتمي إلى قبيلة مذحج الكبيرة التى لا تزال تحمل اسمها وقوتها في اليمن حتى وقتنا الحاضر، وعشيرته زبيد، ولهذا يقال له عمر بن معد يكرب الزبيدي، وفي صغره وشبابه لم ير فيه والده ومجتمعه النجابة و القيادة، ولهذا كان يسميه والده عمرو المائق، لكنه وفي حادثة طارئه غير النظرة إليه، فبعد أن أرادت قبيلة خثعم غزو قبيلته زبيد طلب من والده أن يشارك في ردهم، وذكر ذلك لأخته، فنقلت طلبه إلى والده، فقال أبوه، ما لهذا المائق وذاك، فقال له الناس (دعه يفعل فإن ظهر فلك، وإن مات كفيت مؤنته) فقبل، فكان منه ما لم يكن في الحسبان. وقصصه كثيرة بين طيات الكتب، وليس هذا المقال موضعها. وقد قدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جمع من عشيرته وأسلم، لكنه ارتد بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم هاجر إلى العراق وأسلم، وأرسله أبو بكر رضي الله عنه إلى معركة اليرموك، ففقئت إحدى عينيه.
في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أرسله إلى سعد بن أبي وقاص في العراق أثناء المعارك، وقال ما في معناه (إني مرسل إليك برجلين بالفين عمرو بن معد يكرب، وطلحة بن خويلد، فشاورهما، ولا تولهما) وهنا لا بد لنا أن نتساءل لماذا طلب عمر من سعد الاقتصار على المشاورة ومنعه من التولية، هل ردة عمرو بن معد يكرب عن الاسلام بعد وفاة نبي الهدى صلى الله عليه وسلم جعلت عمر لا يثق به، وخشي أن ينقلب موقفه لو مالت كفة الفرس، وفي ذات الوقت فهو يعلم قدرته الحربية وسداد رأيه الحربي، فأراد لسعد أن يستفيد منها، هذا لو صحت الرواية في الأصل، وموضوع آخر أيضاً يتعلق بعمرو بن معد يكرب فهل هو صحابي أم لا؟، فهو قد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأسلم على يده، وروى عنه، لكنه ارتد بعد الوفاة، ثم عاد إلى الإسلام أي أن دخوله ال\إسلام بعد الردة لم يكن في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعريف الصحابي كان وما زال محل نقاش، هل هو من رأى وأسلم، أم من عاصر ولم يره، أم لا بد من صحبة ومجالسة، وهل ينطبق ذلك على عمرو بن معد يكرب؟
موقف آخر جميل حدث بين عمر وعمرو، وهو أن سعد بن أبي وقاص أوفده إلى عمر بن الخطاب، فسأله عمر عن رأيه في سعد، فقال: (هو لهم كالأب، اعرابي في نمرته، أسد في ناموسه، نبطي في حبوته، يقسم بالسوية، ويعدل في القضية، وينفرد بالسرية، وينقل إلينا حقنا كما تنقل الذرة، وكان سعد قد كتب إلى عمر يثني على عمرو بن معد يكرب، فقال عمر: (ما أشد ما تقارضتما الثناء) أي أن كل واحد منكما يثني على الآخر ثناء حسناً، ويبدو أن بينهما مودة خاصة، وسأله عن الحرب، فقال: (مرة المذاق إذا شمرت عن ساق، من صبر فيها عرف، ومن ضعف عنها تلف، وهي كما قال الشاعر:
الحَرْبُ أَوَّلُ ما تكونُ فَتِيَّةً
تَسْعَى بِزِيْنَتِها لكلِّ جَهُولِ
حتى إذا اسْتَعَرَتْ وَشَبَّ ضِرَامُها
عَادَتْ عَجُوزًا غيرَ ذاتِ خَلِيلِ
شَمْطَاءَ جَزَّتْ رَأْسَهَا وَتَنَكَّرَتْ
مَكْرُوهَةً لِلشَّمِّ والتَّقْبِيلِ
وسأله عن السلاح، فقال الرمح أخوك وربما خانك، والنبل منايا تخطئ وتصيب، والترس هو المجن وعليه تدور الدوائر، والترس مشغلة للفارس، متعبة للراجل، وإنها لحصن حصين، وسأله عن السيف، فقال: (ثم قارعتك أمك عن الثكل) فقال له عمر: (بل أمك)، قال: (الحمى اضرعتني لك)، وهذا مثل يضرب عند الذل والخضوع بسبب الحاجة التي تجبر العزيز إلى النزول دون منزلته، وفيما يبدو أن الذي دعا عمرو أن يقول قولته الخالية من اللباقة، انما مبالغة في ردة الفعل على السؤال، فهو مشهور بسيفه الذي يسمى الصمام، وهو من أشهر سيوف العرب، ويقول عنه: ذكر يمان في يمين يماني، والأجمل في هذا الحديث الشيق بينهما، أن عمر لم يغضب من مقولة عمرو بن معد يكرب لمعرفته بطبعه، لهذا فلم يعاقبه على قوله، ولم يعاتبه لكنه رد عليه في موضع الرد، وهذا يدل على سمو التعامل، وتقدير المواقف، مع علمنا أن عمر شديد البأس قوياً في إدارته، لكنه رضي الله عنه متسامحاً في مواضع التسامح، وبقي علينا أن نعرف أن عمرو كان، يصدق فيما يقول، ويعبر عما يختلج في قلبه، ولهذا فهو القائل عن نفسه:
ولقد أجمعُ رِجلَيَّ بها
حَذَرَ الموتِ وإِنّي لَفَرورُ
ولقد أعطِفُها كارهةً
حين للنفس من الموت هَريرُ
كلُّ ما ذلك منّي خُلُقٌ
وبكلٍ أنا في الرَّوع جديرُ