أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: عماد الهداية ونبع تدفقها الإيمان العلمي بالغيب الحقيقي.. روى ابن جرير بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: الغيب ما جاء من الله جل ثناؤه.. وروى بإسناده عن ابن مسعود وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم قالوا: الغيب ما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار، وما ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن.. لم يكن تصديقهم بذلك من قِبَلِ أصل كتاب أو علم كان عندهم.. وروى بإسناده إلى زر بن حبيش رحمه الله قال: الغيب القرآن.. وروى بإسناده إلى قتادة قال: آمنوا بالجنة والنار والبعث بعد الموت وبيوم القيامة، وكل هذا غيب. وروى بإسناده إلى الربيع بن أنس قال: الذين آمنوا بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه وآمنوا بالحياة بعد الموت؛ فهذا كله غيب.. ثم علق ابن جرير رحمه الله بقوله: «وأصل الغيب كل ما غاب عنك من شيء، وهو من قولك: غاب فلان يغيب غيباً.. وقد اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين أنزل الله جل ثناؤه فيهم هاتين الآيتين من أول السورة [يعني سورة البقرة]؛ فقال بعضهم: هم مؤمنو العرب خاصة دون غيرهم من مؤمني أهل الكتاب.. واستدلوا على صحة قولهم ذلك وحقيقة تأويلهم بالآية التي تتلو هاتين الآيتين وهي قول الله عز وجل: {والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ}.. قالوا: فلم يكن للعرب كتاب قبل الكتاب الذي أنزله الله عز وجل على محمد صلى الله عليه وسلم تدين بتصديقه والإقرار والعمل به، وإنما الكتاب لأهل الكتابين غيرها.. قالوا: فلما قصَّ الله عز وجل نبأ الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد وما أنزل من قبله - بعد اقتصاصه نبأ المؤمنين بالغيب -: علمنا أن كل صنف منهم غير الصنف الآخر، وأن المؤمنين بالغيب نوع غير النوع المصدق بالكتابين اللذين أحدهما منزل على محمد صلى الله عليه وسلم والآخر منهما على من قَبْل رسول الله صلى الله عليه وسلم.. قالوا: وإذْ كان ذلك كذلك: صح ما قلنا من أن تأويل قول الله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} إنما هم الذين يؤمنون بما غاب عنهم من الجنة والنار، والثواب والعقاب والبعث والتصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله وجميع ما كانت العرب لا تدين به في جاهليتها مما أوجب الله جل ثناؤه على عباده الدينونة به دون غيره».. ثم عزا ذلك بإسناده إلى ابن مسعود وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم.. وقال بعضهم: بل نزلت هذه الآيات الأربع فمؤمني أهل الكتاب خاصة؛ لإيمانهم بالقرآن عند إخبار الله جل ثناؤه إياهم فيه عن الغيوب التي كانوا يخفونها بينهم ويُسِرُّونها، فعلموا عند إظهار الله جل ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه وسلم على ذلك منهم في تنزيله: أنه من عند الله جل وعز؛ فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وصدَّقوا بالقرآن وما فيه من الإخبار عن الغيوب التي لا علم لهم بها؛ لما استقر عندهم: أن جميع ذلك من عند الله.. استقر عندهم بالحجة التي احتج الله تبارك وتعالى بها عليهم في كتابه من الإخبار فيه عما كانوا يكتمونه من ضمائرهم.. وقال بعضهم: بل الآيات الأربع من أول هذه السورة نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم بوصف جميع المؤمنين الذين تلك صفتهم من العرب والعجم وأهل الكتاب وسواهم، وإنما هذه صفة صنف من الناس.. والمؤمن بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل من قبله هو المؤمن بالغيب.. قالوا: وإنما وصفهم الله بالإيمان بما أنزل إلى محمد وبما أنزل إلى من قبله بعد تقضي وصفه إياهم بالإيمان بالغيب؛ لأن وصفه إياهم بما وصفهم به من الإيمان بالغيب كان مَعْنياً به: أنهم يؤمنون بالجنة والنار والبعث وسائر الأمور التي كلفهم الله جل ثناؤه الإيمان بها مما لم يروه ولم يأتِ بعد مما هو آت دون الإخبار عنهم بأنهم يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الرسل ومن الكتب.. قالوا: فلما كان معنى قوله تعالى ذكره: {والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} غير موجود في قولـه: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} كانت الحاجة من العباد إلى معرفتهم صفتَهم بذلك؛ ليعرفوهم نظير حاجتهم إلى معرفتهم بالصفة التي وصفوا بها من إيمانهم بالغيب؛ ليعلموا ما يرضى اللهُ من أفعال عباده ويحبه من صفاتهم؛ فيكونوا به إن وفقهم له ربهم مؤمنين.. وروى ابن جرير بإسناده إلى مجاهد قال: أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين.. وأسند إلى الربيع بن أنس قوله: أربع آيات في فاتحة هذه السورة في الذين آمنوا، وآيتان في قادة الأحزاب، ثم قال ابن جرير مرجحاً: «وأولى القولين عندي بالصواب وأشبههما بتأويل الكتاب: القولُ الأول، وهو أن الذين وصفهم الله تعالى ذكره بالإيمان بالغيب وبما وصفهم به جل ثناؤه في الآيتين الأُولَيَيْن غير الذين وصفهم بالإيمان بالذي أنزل على محمد والذي أنزل على من قله من الرسل، لما ذكرتُ من العلل قبلُ لمن قال ذلك.. ومما يدل أيضاً (مع ذلك) على صحة هذا القول: أنه جنَّس المؤمنين جنسين بعد وصفهم بالصفتين اللتين وصف، وبعد تصنيفه كل صنف منهما على ما صنَّف الكفار، فجعل أحدَهما مطبوعاً على قلبه مختوماً عليه مأيوساً من إيابه، والآخرَ منافقاً يرائي بإظهار الإيمان في الظاهر ويستسر النفاق في الباطن؛ فصيَّر الكفار جنسين كما صيَّر المؤمنين في أول السورة جنسين، ثم عرف عباده نعتَ كل صنف منهم وصفتَهم؛ فإلى لقاءٍ قريب إنْ شاءَ الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم/ أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، و عنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -