اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
واليوم في قمة القمم التي عقدت بمدينة جدة في التاسع عشر من هذا الشهر، كانت قضية فلسطين حاضرة بقوة، إذ كانت هي أول شيء أكد عليه أخي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد القوي بالله الأمين، رئيس مجلس الوزراء، رئيس الجلسة بالحرف، إذ قال: (القضية الفلسطينية كانت وما زالت قضية العرب المحورية) بل ستظل كذلك حتى ينقشع ليلها وتنال حقوقها المستحقة كاملة غير منقوصة.
أما على الجانب اللبناني مثلاً، وما يحظى به لبنان من دعم سخي دائم، ومساندة وجهد متصل من السعودية، فأكتفي هنا بإشارة سريعة إلى مؤتمر الطائف الذي دعت إليه السعودية واستضافته عام 1989 ليضع حدَّاً لحرب أهلية ضروس (1975 - 1990) فقد لبنان بسببها أكثر من (120) ألف مواطن، ونزح نحو (8.000) داخلياً، فيما لجأ نحو مليون إلى دول أخرى، ناهيك عمَّا حدث من خسائر فادحة في البنية التحتية وممتلكات المواطنين وما أصاب الأطفال والنساء من رعب يتفطر له القلب حزناً.
على صعيد آخر، عندما اجتاح صدام حسين الكويت في الثاني من أغسطس عام 1990، بادرت القيادة السعودية في بداية الأمر لإقناعه بفداحة ما أقدم عليه من احتلال دولة مستقلة شقيقة جارة، مسالمة ومتعاونة، في محاولة جادة لإقناعه بالعدول عن هذا الأمر الجلل الذي سيدخل المنطقة كلها حتماً في متاهة لا أحد يعلم ما يمكن أن ينجم عنها من خسائر فادحة على المستويات كافة. فاستضافت السعودية في هذا الصدد اجتماعاً تم عقده في جدة بين وفدي الكويت والعراق برئاسة الشيخ سعد العبد الله الصباح ولي عهد الكويت، وعزَّت إبراهيم الدوري نائب الرئيس العراقي. ولما لم تُجْدِ كل المحاولات السلمية نفعاً مع تعنُّت صدام حسين، لم تجد السعودية بُدَّاً من دعوة التحالف الدولي لمساعدة الكويت وإنقاذها من براثن العراق، فكانت عاصفة الصحراء عام 1991، وكان ما كان بعد ذلك، ولن ينفع الندم بعد فوات الأوان. وبجانب هذا الجهد الحثيث، هنالك قمة العلا، التي نظمتها السعودية لتنهي ثلاثة أعوام ونصف العام من الخلافات الخليجية. أما اليمن ، فحسابه في الدعم السعودي والمساندة، مفتوح ليس له سقف، والشواهد أكثر من أن تحصى. ولم تقف الجهود السعودية عند هذا الحد، إذ سعت حثيثاً لمساعدة الدول الإسلامية والأقليات المسلمة حيثما كانت، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بل سعت لتحقيق ذلك عسكرياً أيضاً عندما كونت عام 2015 التحالف الإسلامي العربي.
وقطعاً لا يفوتني هنا أن أشير إلى مبادرة السعودية لإيجاد حل لهذا الاقتتال الداخلي الذي نشب في السودان الشقيق بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان والدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، وما بذلته القيادة السعودية من محادثات بناءة للوصول إلى وقف لإطلاق النار والمحافظة على حياة المدنيين والبنية التحتية وتوفير هذا الجهد الذي يضيع هباءً لمواجهة الأخطار الخارجية التي تحدق بالأمة كلها. وفي هذا الصدد، تتحدث القيادة السعودية دوماً عن ضرورة تحقيق الأمن العربي والأمن الإسلامي في كافة المجالات، ولاسيَّما الأمن الغذائي في ظل حرب المياه التي تلوح نذرها في الأفق.
أما في جانب الأعمال الخيرية، فكانت قوافل السعودية دوماً أول الواصلين حيثما كان هنالك نداء استغاثة، دونما أي اعتبارات لخلاف في العقيدة، اللون، الجنس أو حتى الخلافات السياسية. وأذكر في هذا أن خيلنا كانت أول الواصلين إلى قرية بام الإيرانية عندما ضربها زلزال مدمر (6,6 على مقياس رختر) عام 2003، مع أن خلافاتنا السياسية كانت في أوجها مع إيران يومئذٍ. ولما كان الشيء بالشيء يذكر، لا يفوتني هنا أن أشير إلى ما تم من تفاهم بين السعودية وإيران في العاشر من هذا الشهر بوساطة صينية، الأمر الذي أذهل الدول (العظمى) وسحب البساط من تحت أقدامها، ففغرت فاها، بعد أن أذهلتها كفاءة القيادة السعودية وذكاؤها وحكمتها وقدرتها على إدارة شؤونها، بعيداً عن مخابرات الغرب التي تزعم أنها قادرة حتى على رصد دبيب النمل في هذه الدولة أو تلك.
وهكذا تراكم عمل الخير في دولة الرسالة حتى صار عملاً مؤسسياً تحت مظلة (مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية) الذي تم تأسيسه عام 2015 للتنسيق مع المنظمات والهيئات العالمية بهدف تقديم المساعدات للمحتاجين حول العالم بالتعاون مع عدد من الشركاء الإقليميين والعالميين، وقدَّم خدماته حتى اليوم لأكثر من أربعين دولة.
واليوم، وأنا أكتب مقالي هذا، تترأس السعودية القمة العربية الثانية والثلاثين التي عقدت في مدينة جدة في التاسع عشر من هذا الشهر، فكانت قمة القمم بحق، إذ عرض عليها (32) مشروع قرار سياسي، اقتصادي واجتماعي، يناقش كل المشاكل العربية على امتداد وطننا العربي، ولاسيَّما تلك المشاكل العاجلة في العراق، سوريا، لبنان، اليمن، السودان وليبيا. وقد احتار المراقبون في وصفها لما أظهرته السعودية من قدرة على الإعداد والترتيب والإدارة، والتزامها سياسة الحياد الإيجابي في كل القضايا العربية، مهما كانت ساخنة، مما جعلها محل ثقة الجميع وتقديرهم، كما عبروا عن ذلك صراحة في كلماتهم أثناء القمة، إضافة لما شهدته من تمثيل دبلوماسي عالٍ، وغياب خطابات التعميم الرنانة التي اتسمت بها القمم العربية خلال العقد الأخير؛ الأمر الذي يؤكد كفاءة الدبلوماسية السعودية. وقد أبدع السيد أحمد أبو الغيط أمين عام الجامعة العربية عندما وصفها بـ(قمة التجديد والتغير).
وبعد، لا غرو أن يتسابق العالم، حتى دوله (العظمى) لخطب ود السعودية، والتعبير عن ذلك قولاً وفعلاً، كما صرحت ألمانيا مثلاً عن تطلعها للعمل مع السعودية لما لها من ثقل في المنطقة والعالم، ولما لقيادتها من قدرة على العمل، وتردد أمريكا دوماً أن السعودية شريك أصيل لا يمكن الاستغناء عنه، وتفعل الهند والباكستان والصين وغيرها الشيء نفسه. ويؤكد زيلينسكي ما ذهبت إليه هنا عملياً، إذ حرص على حضور قمة جدة في الوقت نفسه الذي تشهد فيه بلاده قتالاً شرساً من روسيا، مثمناً دور السعودية في الوساطة بين بلاده وبين روسيا في تحرير الأسرى، متمنياً مواصلة الجهود لإيقاف الحرب. ولم يكن لخصمه بوتين الرئيس الروسي أن يفوت الفرصة، فيبرق لقمة جدة متطلعاً توسيع التعاون مع دول المنطقة، مؤكداً استعداهد للمشاركة في حل أزماتها.
صحيح، الحديث ذو شجون، ولهذا أجدني أختم هنا مردداً مع أخي العزيز (دايم السيف) الشاعر الفحل:
أقول أرفع رأسك أنت سعودي
واليوم أقول رفعت الرأس يا سعودي
متمنياً من الإخوة قادة الدول العربية وضع يدهم في يد القيادة السعودية، والعمل معها بروح المسؤولية نفسها، فالعبء ثقيل وإن كانت السعودية أهلاً له. وألاَّ ينسوا أن يد الله مع الجماعة، مبتهلاً إلى الله العلي القدير باسمه الأعظم، أن يجعل رأس ولي أمرنا مرفوعاً عالياً إلى الأبد، وكذلك رأس ولي عهدنا، مثلما رفعوا رأسنا وبيضوا وجهنا، وملؤونا بالفخر والاعتزاز.