د.عبدالله البريدي
(1)
سألتُ زملاءَ لُغويين في عدة دول عربية (السعودية، تونس، المغرب، موريتانيا): هل تُدرِّسون كتابي: «دلائل الإعجاز» و «أسرار البلاغة» لـ عبدالقاهر الجرجاني في كلياتكم اللغوية في مرحلة البكالوريوس؟ فأجاب أكثرهم بالنفي، وقلة أجابتْ بالإيجاب، وقد فهمتُ منها أن تدريس هذين الكتابين إنما هو تدريس جزئي في مقرري: البلاغة والنقد، أي عبر نصوص مختارة من هذين الكتابين (كما في بعض الجامعات «المغاربية»).
من الواضح، أن هذا الاستقصاء ليس موسعاً بَلهَ تاماً، إذ هو مجرد استقصاء جزئي بالعينة المحدودة، وهو لا يخول لنا من ثمَّ أي تعميم «علمي»، ومع ذلك فهو كاشف بدرجة كبيرة للممارسة اللغوية من وجهة نظري، وبخاصة أننا أتينا على جامعات عربية عريقة في علوم اللغة، وفيها علماء وباحثون رصان، مما يجعل هذا الاستقصاء كافياً لإيراد الفكرة التي تخامرني منذ عدة سنوات. وهذه الفكرة يمكن أن أضعها في عناصر متسلسلة بشكل تلقائي.
(2)
تتعين الإشارة في البداية إلى أن حديثي ليس محصوراً على العلامة الجرجاني رحمه الله تعالى ونصوصه، إذ هي غيض من فيض النصوص التراثية اللغوية الملهمة، التي لم نعد نكترث لها في تدريسنا اللغوي المعاصر كنصوص الجاحظ وابن جني وغيرها كثير من النصوص اللغوية «التأسيسية».
فكرتي في هذا النص الصغير مختصرة، ومفادها: أنه يتوجب إعادة تعيين عبدالقاهر الجرجاني محاضراً في كلياتنا اللغوية، وتعيين أمثاله من مفكرينا اللغويين الملهمين (بالفتح والكسر معاً). وعوض أن أتحدث أنا عن الجرجاني، لأسوغ لكم هذا التعيين وأحسنه في عقولكم، سأجعل هذا المحاضر الفخم (=الجرجاني) يعرض لنا بنفسه جوانب ومهارات لغوية في مشاهد تطبيقية صرفة، ولعلها إذ ذاك تبرر أو تؤشر على مبررات مثل هذا التعيين المنشود. لنتأمل ملياً هذه المشاهد اللغوية العذبة، ولنقرأها بأم ذاقتنا:
(3)
ورد في دلائل الإعجاز ما نصه:
رُويَ عن الأصمعي أنه قال: كنتُ أسيرُ مع أبي عمرو بن العلاء وخلفٍ الأحمر وكانا يأتيان بشاراً فيُسلِّمانِ عليه بغاية الإعظامِ ثم يقولون: يا أبا مُعاذٍ ما أحدثْتَ؟ فيُخْبِرُهما ويُنْشِدُهما، ويَسْألانِه ويكتبان عنه متواضِعَيْن له، حتى يأتيَ وقتُ الزوالِ ثم ينصرفان. وأتيَاه يوماً فقالا: ما هذه القصيدةُ التي أحدثْتَها في سَلمِ بن قُتَيْبَةَ؟ قالَ هي التي بلَغَتْكُم. قالوا: بلَغَنا أنك أكْثَرتَ فيها من الغَريب. قال: نعم، بلغني أن سَلْم بْنَ قتيبة، يَتباصَرُ بالغريب، فأحببْتُ أن أوردَ عليه ما لا يَعْرَفُ. قالوا: فانْشِدْناها يا أبا مُعاذ, فأنشدهما:
بكِّرا صاحبيَّ قَبْلَ الهجيرِ
إنَّ ذاكَ النجاحَ في التَّبْكيرِ
حتى فرَغ منها، فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكانَ: «إن ذاك النجاحَ في التبكيرِ»، «بكِّرا فالنجاح في التبكير»، كان أحسَنَ. فقال بشار: إنما بنَيْتُها أعرابية وَحْشيَّة، فقلتُ: إنَّ ذاكَ النجاحَ في التبكير، كما تقولُ الأعرابُ البدويون. ولو قلتُ: «بكِّرا فالنجاحُ» كان هذا من كلام المولَّدينَ ولا يُشْبِهُ ذاكَ الكلامَ ولا يَدْخُل في معنَى القصيدة. قال: فقام خلَفُ فقبَّلَ بين عينيه. فهل كان هذا القولُ من خَلَف، والنقدُ عَلَى بشار، إلاَّ لِلُطْفِ المعنى في ذلك وخَفَائِه؟ (انتهى الاقتباس من الدلائل).
(4)
أقول أنا: أرأيتم كيف يقف هؤلاء الكبار عند دقائق اللغة وسماتها وأسرارها وخفاياها؟ كم هي عظيمة هذه الروح الإبداعية الاستكشافية المخلصة للمعرفة، مع التأدب مع الكبار وحسن الأخذ منهم. فهم خلفٌ الأحمرُ القصدَ، ولذا فلم يسأل بشاراً عن مقصده، ففاتنا العلمُ. بيد أن الجرجاجي، يأتي إلينا محاضراً، فيقول رحمه الله في سبر غور هذا البيان العربي الباذخ، ما نصه:
واعلمْ أنَّ مِنْ شأن «إنَّ» إذا جاءت على هذا الوجه، أن تُغْني غَناء الفاءِ العاطِفةِ مثلاً، وأنْ تُفيدَ من رَبْط الجملةِ بما قبلها، أمراً عجيباً، فأنتَ تَرى الكلامَ بها مستأْنَفاً، غيرَ مستأنفٍ، مقطوعاً موصولاً معاً. أفلا تَرى أنك لو أَسْقَطْتَ «إنَّ» من قوله: «إنَّ ذاك النجاح في التبكير»، لم تَر الكلامَ يَلتئمُ، ولو رأيتَ الجملةَ الثانيةَ لا تتَّصل بالأولى ولا تكونُ منها بسبيلٍ حتى تجيء بالفاء فتقولُ:
بكِّرا صاحبيَّ قبلَ الهجيرِ
فذاكَ النجاحُ في التبكيرِ
ومثلُه قولُ بعضِ العرب:
فغنِّها وهيَ لكَ الفداءُ
إنَّ غناء الإِبلِ الحُداءُ
(انتهى الاقتباس من الدلائل).
أقول: هذا تحليل عبقري للغة أكثر عبقرية، إذ كيف يكون أسلوبٌ من شأنه الوصل والفصل معاَ، ويكون باعثاً على الوحدة والالتئام، وحاضاً على الاستقلال والانفصام؛ في تركيبة عذبة سمحة تؤكد معنى وتطرب أذناً.
(5)
مشهد آخر من الدلائل، إذ يقول الجرجاني ما نصه:
وروي عن عنبسة (= من أشهر من أخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي) أنه قال: قدم ذو الرّمّة الكوفة فوقف ينشد الناس بالكناسة قصيدته الحائية التي منها:
هِيَ البُرءُ وَالأَسقامُ وَالهَمُّ والمنى
وموت الهوى في القلب منّي المبرّح
وكان الهوى بالنأي يمحى فيمّحي
وحبّك عندي يستجدّ ويربح
إذا غيّر النّأي المحبّين لم يكد
رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح
قال: فلما انتهى إلى هذا البيت ناداه ابن شبرمة: يا غيلان، أراه قد برح, قال: فشنق ناقته (=كفّها بزمامها) وجعل يتأخّر بها ويفكّر، ثم قال:
إذا غيّر النأي المحبّين لم أجد
رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح
قال: فلمّا انصرفت حدّثتُ أبي، قال: أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ذي الرّمة ما أنكر، وأخطأ ذو الرمة حين غيّر شعره لقول ابن شبرمة، إنما هذا كقول الله تعالى: ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها [النور: 40]، وإنّما هو: لم يرها ولم يكد.
واعلم أنّ سبب الشّبهة في ذلك أنه قد جرى في العرف أن يقال: «ما كاد يفعل» و»لم يكد يفعل» في فعل قد فعل، على معنى أنه لم يفعل إلّا بعد الجهد، وبعد أن كان بعيداً في الظّن أن يفعله، كقوله تعالى: (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة: 71]، فلما كان مجيء النفي في «كاد» على هذا السبيل، توهّم ابن شبرمة أنه إذا قال: «لم يكد رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح»، فقد زعم: أن الهوى قد برح، ووقع لذي الرمة مثل هذا الظّن.
وليس الأمر كالذي ظنّاه، فإن الذي يقتضيه اللفظ إذا قيل: «لم يكد يفعل» و»ما كاد يفعل»، أن يكون المراد أن الفعل لم يكن من أصله، ولا قارب أن يكون، ولا ظنّ أنه يكون. وكيف بالشك في ذلك؟ وقد علمنا أن «كاد» موضوع لأن يدلّ على شدة قرب الفعل من الوقوع، وعلى أنّه قد شارف الوجود. وإذا كان كذلك، كان مُحالاً أن يوجب نفيه وجود الفعل، لأنه يؤدّي إلى أن يوجب نفي مقاربة الفعل الوجود وجوده، وأن يكون قولك: «ما قارب أن يفعل»، مقتضياً على البتّ أنه قد فعل. وإذ قد ثبت ذلك، فمن سبيلك أن تنظر. فمتى لم يكن المعنى على أنه قد كانت هناك صورة تقتضي أن لا يكون الفعل، وحال يبعد معها أن يكون، ثمّ تغير الأمر، كالذي تراه في قوله تعالى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71]، فليس إلّا أن تلزم الظاهر، وتجعل المعنى على أنك تزعم أن الفعل لم يقارب أن يكون، فضلاً عن أن يكون.
فالمعنى إذن في بيت ذي الرّمة على أن الهوى من رسوخه في القلب، وثبوته فيه وغلبته على طباعه، بحيث لا يتوهّم عليه البراح، وأن ذلك لا يقارب أن يكون، فضلاً عن أن يكون، كما تقول: إذا سلا المحبّون وفتروا في محبتهم، لم يقع لي في وهم، ولم يجر منّي على بال: أنه يجوز عليّ ما يشبه السّلوة، وما يعدّ فترة، فضلاً عن أن يوجد ذلك مني وأصير إليه (انتهى الاقتباس من الدلائل).
أقول: هذا التحليل المعمق اجتذب برفق ومهارة أطراف الحقيقة اللغوية والوجودية، فقد سحب خيوط هذه الحقيقة المركبة من نسيج الإبستمولوجيا والأنطولوجيا، ونظمها دونما تكلف وتمحل، بخلاف التحليلات المتفلسفة المتجهمة، التي تدعي قول كل شيء، وهي لا تكاد تقول شيئًا.
(6)
أختم هذا النص الصغير بهاته الأسئلة: هل يمكن لنا تحقيق نهضة علمية حقيقية، دون إعادة تعلم مثل هذه النصوص بكل الصدق والجد، وإعادة إدماجها في برامجنا ومقرراتنا ؟ كيف يغيب نص كالدلائل عن كلياتنا اللغوية ؟ هل تسد الكتب المؤلفة حديثاً أو الكتب المترجمة أو المنقولة الحاجة وتبني لنا طاقات وملكات لغوية مبدعة؟ هل تبني مثل تلك الكتب المعاصرة ذائقة لغوية وقدرات تحليلية؟ من يعيد تصحيح المسار لتنبض العربية في عرقنا، وترشح من عرقنا؛ فتفجر لنا ينابيع الحكمة، وتشسع جداول المعرفة؟ الأمانة في أعناقكم أنتم، أيها اللغويون الكرام، فخذوا ما قد سمعتم، أو ردوه ببينة وبرهان.
ماذا عن الحقول المعرفية الأخرى: تُرى مَنْ مِنْ أعلام تراثنا العربي الإسلامي من يستحق أن نسعى في تعيينه ليكون محاضراً في أقسامنا العلمية؟ هذا سؤال يحتاج إلى تفكير وتأمل، وليتنا نهجر نهج التعجل في الإجابة عن سؤال إشكالي كهذا، حيث يتوجب أن تكون إجابتنا برهانية مُعلَّلة. وهنا يحسن بنا أن نستعيد مقولة لـ باسكال، يؤكد فيها أن: القدامى أكثر شباباً منا؛ فهل نمنح الأكفاء الملهمين منهم فرصة لأن يلقوا محاضرات في قاعتنا الحديثة، فقد يحقنوا عروقنا الصدئة بأفكار جديدة تنقلنا إلى مستقبل حميد؟
** **
- كاتب وأكاديمي سعودي