عبدالوهاب الفايز
كم هي السنين التي مضت وانقضت.. ولم نسمع حدثًا سعيدًا قادمًا من أفغانستان.
فمنذ أن عرفنا الدنيا وأخبار هذا البلد قتلًا وخرابًا.. والملهاة الإنسانية التراجيدية تتجدد، وتاريخ النكبات الكبرى يعود إلى (اللعبة الكبرى)، وهي سلسلة من النزاعات السياسية والدبلوماسية في القرن التاسع عشر الميلادي بين الإمبراطوريتين البريطانية والروسية على أفغانستان والأقاليم المجاورة في وسط وجنوب آسيا.
واليوم يستمر الوضع السيئ، ففي تقرير موسع للصحيفة الأميركية (وول ستريت جورنال - 8 يونيو 2023) أبرز أوضاع زراعة المخدرات والظروف الاقتصادية الصعبة في أفغانستان نتيجة الحصار الأمريكي الاقتصادي المفروض على البلد منذ الخروج الأمريكي وعودة طالبان إلى الحكم.
فالأوضاع المزرية الحالية فاقمها الحصار الاقتصادي الأمريكي، ومعه سنوات جفاف عجاف، وحكومة ثورية ورثت الاحتلال والإذلال الغربي، وتفتقد للخبراء والكفاءات المؤهلة. فسنوات الحرب الطويلة هجَّرت العقول، ودمرت المُدمر، ودهورت الأوضاع الاقتصادية الداخلية، مما دفع إلى إدمان المخدرات وامتهان زراعتها وتصديرها. (اقتصاد الأفيون يوظف 450.000 شخص، وحاليًّا حوالي 80 % من الأفيون في العالم يأتي من أفغانستان).
المؤسف أن أوضاع أفغانستان المؤلمة لا تحظى بكثير من التغطية والمتابعة من قبل الصحافة العربية والإسلامية. ويتزامن هذا الألم مع غياب برنامج تنموي شامل إسلامي لإنقاذ ذلك البلد المنكوب. ولا أحد يعرف إلى متى تستمر المعاناة الإنسانية.
يبقى السؤال المشروع: لماذا تُترك أفغانستان، لإرادة أمريكا التي ظلت تتخبط في مواقفها السياسية المدمرة لذلك البلد بحجة معاقبة طالبان؟
على مدى عشرين عامًا جربت أمريكا الحرب المباشرة الشاملة للقضاء على طالبان، وأنفقت من أموال الشعب الأمريكي ألفي مليار دولار (2 ترليون) ولم تفلح في القضاء عليها. بل عادت طالبان بقوة، ويرجح أن عودتها باتفاق غريب بين العدوين. ورغم ذلك أمريكا مازالت تفرض على أفغانستان حصارًا جائرًا يدمر البلد اقتصاديًّا واجتماعيًّا، ومازالت تجمد أكثر من 9 مليارات دولار من أصول البنك المركزي الأفغاني، وتفرض عقوبات مالية تقوض النظام المصرفي في البلاد، وهذا جميعه أدى، بطريق غير مباشر، إلى التوسع في زراعة وتجارة المخدرات التي يتكسب منها بعض الأفغان والعديد من تجار المخدرات ومنظماتهم بالغرب.
هذه الأوضاع المتدهورة في أفغانستان تقدم الحالة الدراسية لشعوب وقيادات الدول الإسلامية، للوعي والتدبر العميقين بخطورة المخدرات، فإغراق الشعوب بالمخدرات سلاح فعال في الصراع الدولي؛ وبريطانيا هي أول من استخدم سلاح المخدرات على الصين، فيما عرف بـ(حروب الأفيون) بعد رفض الإمبراطور الصيني التوقف عن زراعة القطن، وبعد توسع الطلب على السلع الصينية الفاخرة (مثل الحرير والبورسلان والشاي)، مما أوجد اختلالًا في التوازن التجاري بين الصين وبريطانيا، حيث أخذت الأموال الأوروبية تتدفق إلى الصين. وحرب المخدرات القذرة الشاملة دمرت الصين وأجبرته على الركوع الخضوع إلى الدول الاستعمارية لعدة قرون، وهذا (التاريخ المذل) هو الذي أطلق روح الصين الجديدة.
لقد عانت الصين لعدة قرون من آثار حروب المخدرات، وقاد ماوتسي تونج معركة كبرى للقضاء على المخدرات تطلبت تضحيات كبيرة. والتاريخ هو دروسٌ وعبرٌ، وليس قصصًا تُحكى. والشعوب الإسلامية قد تواجه نفس المصير مع القوى المتجبرة في عالمنا اليوم. فإمكانية عودة الدول الكبرى لاستخدام هذه الحرب لتدمير الشعوب والهيمنة على الدول غير مستبعد، لأنها وسيلة فعالة وحرب غير مكلفة، بل مربحة إذا سيطرت عليها العصابات الغربية المنظمة. والبنوك الغربية هي أكبر المستفيدين من أموال المخدرات والجريمة المنظمة، وبنوك (اوفشور) المتحررة من القيود أنشئت لغرض تسهيل استقطاب مشاريع غسيل الأموال التي تقدم التمويل الرخيص للنظام المالي الغربي، كما استفادوا من القرصنة في أعالي البحار، وتجارة الرقيق.
حاليًا، الملفت أن أغلب الدول الإسلامية تعاني من مأساة المخدرات، بالذات انتشارها بين الشباب. وهذا مصدر التهديد الأكبر للدول. إذا عدنا إلى أفغانستان، سوف نجد المثال الحي للأثر الممتد المدمر لوجود منظومة متكاملة للمخدرات. المشكلة الأساسية التي عانت منها الصين، هي توسع الإدمان في أجيال ممتدة من الشعب. وهذا هو الوضع القائم في أفغانستان. لن تنجح الحلول الاقتصادية أو الزراعية إذا ظل الطلب على المخدرات مرتفعًا وولد قطاع أعمال داخل البلد.
السؤال الكبير: كيف يمكن علاج المدمنين الحاليين؟ ربما هذه منطقة التعاون الرئيسية للمجتمع الدولي، خصوصًا دول ومنظمات العالم الإسلامي التي يجب أن تتدخل لإنقاذ الشعب الأفغاني. البلد يحتاج المصحات العلاجية، ويحتاج برامج احتواء للمدمنين لإبعادهم عن الحياة العامة، ويحتاج برامج التأهيل النفسي والاجتماعي.
والمثال الأفغاني المؤلم والمُهمل يقدم درسًا حيًّا للدول العربية والإسلامية.. لعله يساعدها في حماية شعوبها من حروب المخدرات. فالأمر الذي نراه من الوضع الصعب الذي تعيشه أفغانستان هو عدم اهتمام العالم الغربي، بل إنهم يحرصون على استمراره ليتكسبوا منه ويعظمون مصالحهم بالمنطقة. وبالتالي لن يتبدل الحال هناك دون مبادرة العالم الإسلامي لانقاذ البلد من المخدرات ومن المصاعب الاقتصادية، حتى لو تطلب ذلك الأمر العمل مع حكومة طالبان وتجاوز العقوبات الأمريكية، فأميريكا تضع مصالحها الخاصة وصراعها مع الصين وروسيا منطلقًا لسياساتها الخارجية الحالية، ولن تهتم لدمار العالم الإسلامي جميعه.
إذا صدقت النية، هناك خيارات سياسية عديدة يمكن تنفيذها بشكل منسق بين الحكومة الأفغانية وشركائها الدوليين والإقليميين. ويمكن تنفيذ هذه الخيارات عبر مبادرة الدول الإسلامية إلى التعاون مع الصين ومنظمة شنغهاي لتبني إنقاذ أفغانستان. وهذا يخدم مصالح وأهداف جميع الأطراف، ويعزز التعاون الإقليمي في مجالات الأمن والتجارة والتنمية بين دول آسيا الوسطى والصين وروسيا وباكستان وإيران، ومنطقة الشرق الأوسط.
والأهم أن هذه الجهود الخيرة لو نجحت سوف تساهم في إنهاء واحدة من أبرز المشاكل والصراعات في العالم، بالذات في العالم الإسلامي الذي يعد - مع الأسف - من أكثر المناطق في العالم معاناة من الصراعات والحروب والفقر.
لعلنا نستحضر ضرورة الاعتبار في ظل وفرة الدروس والعبر.