د.شريف بن محمد الأتربي
انطلقت شرارة الأتمتة منذ بدأت الثورة الصناعية الأولى في تحويل صناعات النسيج والحديد والصلب من صناعات يدوية إلى صناعات تستخدم فيها الآلات، ومنذ ذلك الحين وهناك العشرات، بل المئات من الصناعات والمهن اليدوية بدأت في التواري عن الأنظار؛ بل إن كثيراً منها يكاد ينطبق عليه مصطلح: اندثر، أي قَدُمَ وانمحَى وخفي.
ويمكن تعريف الثورة الصناعية حسب ما ذكره «كلاوس شواب» (Klaus Schwab) مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي (World Economic Forum) في كتابه «الثورة الصناعية الرابعة».
يقول شواب إن الثورة الصناعية هي ظهور تكنولوجيا جديدة وطرق مبتكرة لرؤية العالم من حولنا والتعامل معه مما يقود إلى تغيير عميق في البعدين الاقتصادي والاجتماعي.
وفي استعراض سريع للتطورات التي طرأت على سوق العمل من خلال الثورات الأربعة المؤرّخة لهذه التغيرات، نجد أن الثورة الصناعية الأولى والتي انطلقت من بريطانيا وتحديداً من مدينة مانشستر الواقعة شمال لندن، والتي كانت آنذاك الأولى في صِناعة المنسوجات القطنيَّة في العالَم.
ثمَّ تطوّرَت الصناعة فيها إلى أن تمّ صُنع مكائِن النَّسيج ومكائِن أخرى للصناعات المُختلفة، الأمر الذي جعلها أهم المُدن الصناعية في بريطانيا.
وبفضل ذلك أصبحت بريطانيا الدولة السبّاقة بين دُول العالَم في تحقيق نهضةٍ صناعيّة كبيرة، وقد ساهمت الثورة الصناعية في تنشيط اقتصادها مما أدّى إلى ظهور نظام اقتصادي جديد أحدث تأثيراً كبيراً في المجتمع الأوروبي إجمالاً.
كان من أهم نتائج الثورة الصناعية الأولى ظهور أول شركة للاتصالات وظهور شركات التأمين إضافة إلى ظهور البنوك، وكذلك بناء شبكة القطارات والتي سهَّلت انتقال المواد الأولية والبضائع بين جميع مُدن بريطانيا، بالإضافة إلى بناء قناة مانشستر للسفن في عام 1890م والتي امتدت من منطقة «سالفورد» وصولاً إلى الساحل الشرقي.
لقد أدت الثورة الصناعية إلى زيادة حجم الثروة في دول أوروبا وغيرها من الدول التي انتشرت فيها، وأدى التوسُع السريع في الإنتاج الصناعي إلى ظهور ما يُعرف بالرأسمالية الصناعية، بالإضافة إلى ازدياد التبادل التجاري وإعادة توظيف الأموال التي جُنِيَت من الأرباح المُتحققة، كما حقَّقت الدول الصناعية زيادةً ملحوظةً في الإيرادات الآتية من الضّرائب سواء كانت مُباشرة أو غير مُباشِرة.
تركيز الإنتاج الصناعي نتج عن الثورة الصناعية تركيز الإنتاج الصناعي في يد هيئات مُعينة، فقد زالت ورش العمل الصغيرة وظهرت مكانها مؤسسات عملاقة تحتكر إنتاج سلع مُعينة وتوظّف الآلاف من العُمال.
ارتبطت الثورة الصناعية الثانية باكتشاف الكهرباء والمصباح الكهربائي عن طريق العالم الأمريكي توماس أديسون، ونتيجة لذلك زادت قدرة التصنيع بشدة، وتحولت المحركات البخارية إلى العمل بالبنزين- التحول الهائل اكتشاف البترول والطفرة الكبيرة في الصناعة الكيميائية التي صاحبت إنتاجه يعد من أهم نتائج الثورة الصناعية الثانية- كما بدأت عمليات المكننة - دخول الآلة كوسيط بين العامل والعمل- مما ساعد على زيادة العمليات وغزارة الإنتاج.
بدأ مصطلح الأتمتة يظهر جلياً مع الانتقال لمرحلة جديدة في عمليات التصنيع والإنتاج، حيث بدأت الآلات في إدارة نفسها ذاتيا بدلاً من الاعتماد على الإنسان اعتماداً على التحكم الآلي بها، ولم تعُد هناك صِلة مُباشِرة بين العامِل والآلة مما أفقد الكثير من العمال وظائفهم.
ومع ظهور الثورة الصناعية الرابعة والتي تعتمد على تقنيات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي، والبيانات الكبرى، والروبوتات، والطابعات ثلاثية الأبعاد، وإنترنت الأشياء، وأخيرا chatGpt.
بدأ الحديث عن فقدان العديد من الأشخاص لوظائفهم نتيجة الاعتماد على هذه التقنيات، وأغلب هذه الوظائف تعتمد على العامل البشري والذين سيحل محلهم الروبوتات المجهزة بالذكاء الاصطناعي، أو تعتمد على الذكاء البشري، والذي سيحل محله الذكاء الاصطناعي، ومن أبرز هذه الوظائف: مهنة المحاسبين، مهنة مشغلي الآلات في صناعة الطباعة والنجارة والصناعات الكيماوية والمعدنية، مهنة الصرافين، مهنة البائعين، مهنة الموظفين المبتدئين في الزراعة والإداريين المبتدئين، مهنة عمال النظافة، مهنة اللحام والبناة، مهنة السائقين، مهنة عمال الغابات، مهنة سعاة البريد، وكلاء السفر، الطيارين، المذيعين، بعض المهن الطبية ... وغيرها الكثير من الوظائف.
والمتابع والمحلل لهذه الوظائف سيجد أن كثير من الوظائف المهنية ستظل محتفظة بكيانها- غير مهددة بقوة حالياً - نتيجة عدم توفر التقنيات التي يمكن أن تحل محلها حتى الآن، وهذا أدعى لأن تبدأ الأسر في توجيه أبنائها نحو التعليم الفني والذي يمكن أن يضمن لهم وظائف مستقبلية، ومن أبرز هذه الوظائف:
- البستنة والحدائق
- الزراعة بشكل عام
-الرسم
- النجارة
- الحدادة
- الكهرباء
- النحت
- تصفيف الشعر
- خدمات الفندقة
- خدمات التمريض
- الميكانيكا
كل هذه المهن اليدوية وغيرها من المهن الفنية ستظل تقاوم التغيير إلى فترة ليست معلومة مما يستدعى النظر إليها خاصة مع توجه الكثير من الكليات إلى إغلاق الكثير من أقسامها والتوجه نحو التخصصات الأكثر طلباً في سوق العمل المستقبلي، فهل سيكون التعليم الفني منجاة لأبنائنا من سوق البطالة الوظيفية؟
** **
- مستشار تعليم إلكتروني وتدريب