د. تنيضب الفايدي
العذيب هي الأرض الواسعة بين العلا (قديماً) والحجر، وأقول (قديماً) لأن العلا حديثاً توسعت ولاسيّما في جهة الشمال، وتعتبر محطة سكة حديد الحجاز القديمة جزءاً من العذيب، ويتكرر اسم العُذَيب ومشتقاته في كثير من المواقع، وكذا اسم عُذَيْبَة، كما ترد كلمات مثل (عَذْبة اللمى) و(عذبة الثنايا)، أما العُذَيب فقد اشتهرت بوفرة الماء وعذوبته حتى أن الإبل تحنّ إلى ماء العذيب.
تمنت أحاليب الرعاء وخيمة
بنجد فلم يقدر لها ما تمنّت
إذا ذكرت ماء العذيب وطيبه
وبرد حصاه آخر الليل حنّت
لها أنة وقت العشاء وأنة
سحيراً فلو لا أنّـتاها لجنّت
بأكثر مني لوعة غير أنني
أجمجم أحشائي على ما أجنّت
والعذيب قد أحبّها الشعراء كثيراً، وذكروها في أشعارهم ومنها:
ألاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ سُلَيْمَى مُقِيمةٌ
بِوادِي الحِمَى حَيْثُ المُتَيَّمُ والِعُ
وهَلْ لَعْلَعَ الرَّعْدُ الهَتُونُ بِلَعْلَعٍ
وَهَلْ جادَها صَوْبٌ مِنَ المُزْنِ هَامِعُ
وهَلْ أَرِدَنْ ماءَ العُذَيبِ وحاجِرٍ
جِهاراً وسرُّ اللَّيْلِ بالصُّبْحِ شائِعُ
وهَلْ قَاعَةُ الوَعْسَاءِ مُخْضَرَّةُ الرُّبَى
وهَلْ ما مَضَى فِيها مِنَ العَيْشِ رَاجِعُ
وقال آخر في ماء العذيب وأرض العذيب وهواء العذيب:
وَإنْ وَرَدَتْ بِهَا مَاءَ العُذَيْبِ فَقُلْ
سَقَى العُذَيْبِ مِنَ الأمْوَاهِ مَا عَذُبَا
وَخَلَّ عَنْهَا إِذَا ارْتَاحَتْ لِرَائِحَةٍ
مِنْ طِيبِ طَيْبَةٍ أَوْ رَيَّا رِيَّاضِ قُبَا
وقال آخر:
رِفَاقِي الظَّاعِنِينَ مَتَى الوُرُودُ
وَذَيَّاكَ الْعُذَيْبُ وَذَا زَرُودُ
فَعُوجُوا بِي عَلَى آثَارِ لَيْلَى
فَمَا يَدْرِي الْغَرِيبُ مَتَى يَعُودُ
وَزُورُوا شِعْبَهَا فَعَلَى فُؤَادِي
وَقَلْبِي مِنْ نُسَيِّمِهِ بُرُودُ
رِفَاقِي الظَّاعِنِينَ تَرَفَّقوا بِي
فَقَلْبِي فِي هَوَى لَيْلَى عَمِيدُ
أَعِيدُوا لِي الحَدِيثَ بِذكْرِ لَيْلَى
أَعِيْدُوهُ فَدَيْتُكُمْ أَعِيدُوا
ذكر العذيب مع أماكن أخرى حيث يقول الشاعر:
يومٌ بحـزوى، ويومٌ بالعقيــق
وبالعُذيب يومٌ، ويومٌ بالخليصَـاءِ
وتارة تَنْتَحِي نجداً، وآونــةً
شعبَ الغُويْرِ، وطَوْراً قصرَ تيماءِ
وتشتهر العذيب بأنها كانت مكاناً لأهل الحبّ العُذري القديم، والحبّ اسمٌ مشترك يجمع ضروباً من ميل النفس كحبّ الولد والمال، ثم الهوى ثم المودة ثم الصبابة، ثم العشق ثم الوله والهيام والتتيم، وهو أرفع درجات الحبّ. العلا طبقات التاريخ لـ: د. تنيضب الفايدي (ص179).
وللحبّ أنواع كثيرة مثل: الحبّ العاطفي والحبّ الذاتي والحبّ العذري والكثير من الأنواع الأخرى، أما الحبّ العذري فهو الحبّ العفيف الطاهر الذي تغنّى به الشعراء العذريون، ونظموا فيه قصائدهم الغزليّة؛ ويسمى بالغزل العُذري، ويسمى أيضاً بالغزل البدوي، والحبّ العذري يتغزل فيه الشاعر بمحبوبته بعفةٍ بعيداً عن وصف محاسنها أوصفاتها الجسدية، عكس الحبّ الصريح الذي يتغزل فيه الشاعر بمحبوبته فيصف حسنها وصفاتها الشكلية والجسدية مثل طولها وقوامها وملامح وجهها.
يُنسب شعر الحبّ العُذري إلى قبيلة عُذرة ومسكنها في وادي القرى (العلا) بين الشام والمدينة، حيث اشتهرت بكثرة عشاقها الذين اتصفوا بالعفّة والفصاحة في الحبّ، فنسب إليهم وارتبط اسمه بهم،ويعود السبب إلى ارتباط هذا النوع من الغزل بقبيلة عُذرة دون غيرها من القبائل العربية؛ لشهرتها بجمال النساء، وعفّة الرجال، إضافةً إلى انحدار الشاعر المخضرم عروة بن حزام من هذه القبيلة الذي يعتبر من أوائل الشعراء العذريين البارزين، ثم انتقل وانتشر بعد ذلك بين القبائل الأخرى، ومنها قبيلة بني عامر، ومن شعرائها في الحبّ العذري قيس بن الملوح، حيث اشتهر في الأدب بمجنون ليلى العامرية، وكانت بداية نشأة ذلك الحبّ العذري في أواخر العصر الجاهلي، وبلغت ذروته في العصر الأموي. بيئات الغزل لسارة عبابسة (ص64).
والغزل العذري تسمية حديثة، فقد أطلقها النقاد المُحدّثون على هذا اللون من الحبّ الذي مثّله هذا الغزل، واشتهر بصدقه وعفته ونزاهته، أما في العصر القديم فلم يرد مصطلح الغزل العذري عند الشعراء. الغزل العذري لـ: كريم الربيعي (ص3).
وتميّز شعر الغزل العذري بخصائص متنوعة عن غيره من الفنون الأدبية، منها: الاكتفاء بمحبوبة واحدة دون الالتفات إلى غيرها، والإخلاص تجاهها وبقاء القلب وفياً لها حتى بعد زواجها وابتعادها عنه. ومنها: العفة والطهارة: فالشعر العذري لاتوصف فيه محاسنها الجسدية، ففيه إظهار لحبّ الروح النقي. ومنها: وحدة الموضوع: فأغلب القصائد العذرية تبدأ بمقدمة غزلية بالمحبوبة، ثم في الغالب موضوع البكاء على الأطلال، ووصف الحزن والآلام على فراق ورحيل المحبوبة. الحب العذري لـ: هاني.
وأشهر شعراء الحبّ العذري جميل بثينة من قبيلة عُذرة، واسمه: جميل بن عبد الله بن معمر العُذري، كان يسكن مع بثينة في وادي القُرى (العلا)، وبُثينة تصغير بُثنة وهي المرأة الحسنة البضَّة.، قول على قول للكرمي (3/398)، وهو من أبرز شعراء العصر الأموي، أحبّ بثينة وهي من فتيات عشيرته، وهام بها عشقاً منذ الصغر، فهي واحدة من أمثلة الحبّ العذري الخالدات، لكنه رُفِض من قِبل أبيها عندما طلب منه تزويجه إياها،وزوّجها من رجل آخر، ولكن هذا لم يمنع جميل من نظم الشعر فيها، فمن أشعارها:
هي البدر حسناً والنساء كواكب
وشتان ما بين الكواكب والبدر
لقد فضّلت بثنٌ على الناس مثل ما
على ألف شهرٍ فضّلت ليلة القدر
ويقول:
وَأَفنَيتُ عُمري بِاِنتِظارِيَ وَعدَها
وَأَبلَيتُ فيها الدَهرَ وَهوَ جَديدُ
إذا قُلتُ رُدّي بَعضَ عَقلي أَعِش بِهِ
تَوَلَّت وَقالَت ذاكَ مِنكَ بَعيدُ
كان أول اللقاء بينهما في واد يقال له بغيض، كما ذكر ذلك في شعره حيث قال:
وأوّل ما قَادَ المودّةَ بيننا
بوادي بَغيضٍ، يا بُثينَ، سِبابُ
وقلنا لها قولاً، فجاءتْ بِمثله
لكلّ كلام، يا بُثينَ، جوابُ
وأخبار جميل كثيرة، وأشعاره في بثينة أكثر من أن تذكر، وتعددت قصص الحب العذري في قبيلة بني عذرة، مع التزامهم بالحبّ القلبي عندما يتهيأ الوصال، فهذا رجل منهم، راسل محبوبته فأظهرت له جفوةً ضَنِيَ ومرض منها ولم تزل النساءُ من أهلها وأهله يُكَلّمْنَها فيه حتى أجابت، فسارت إليه عائدةً ومسلّمة، فلما نظر إليها تحدرت عيناه بالدموع وأنشأ يقول:
أَرَأَيْتِ إنْ مَرَّت عليك جَنازتي
تروح بها أيدٍ طِوالٌ وتُسْرع
أما تتبعين النعشَ حتى تُسَلِّمي
على رَمْسِ مَيتٍ بالحفيرةِ يُودَعُ
فبكت رحمة وقالت: واللهِ ما ظننتُ أن الأمرَ بلغ بك هذا، فوالله لأساعدنَّك ولأُداوِمنّ على وصالك، فهملت عيناه بالدموع وأنشد:
دَنت وظِلالُ الموتِ بيني وبينها
ومَنَّت بِوَصْلٍ حين لاينفع الوَصْلُ
ووصفُ الشاعر جميل عدداً من المواقع من العلا في أشعاره يدلّ على حبه لوطنه وارتباطه به ارتباطاً وثيقاً، وزاد ذلك حباً عشقه لـ بثينة، وارتباط العربي عادةً بالحبّ ولاسيما حبّ الوطن يعتبر شعره توثيقاً لهذا الحبّ، حتى وإن لم يوفق إلى تبادل ذلك الحبّ معها.
وهكذا قد أحبّ الشعراء العذيب كثيراً، وذكروها في أشعارهم، كانت مكاناً لأهل الحبّ العذري (قديماً) حيث انتهى ذلك الحبّ،
كيف ذاك الحبّ أمسى خبراً
وحديثاً من أحاديث الجوى