الرياض - «الجزيرة» - خاص:
من مقاصد الشريعة الإسلامية تقوية أواصر الأخوة، وتعميق مفاهيم التعاضد والتكافل في المجتمع، وإعادة توزيع الدخل بين أفراد المجتمع أغنياء وفقراء توزيعاً طوعياً عن طيب نفس وسماحة خاطر.
ومن ثم فقد حضت الشريعة السمحاء على التقرب إلى الله سبحانه ببذل الصدقات ومساعدة الآخرين، قال الله تعالى: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ منْ خيرٍ تجِدوهُ عِندَ اللَّهِ هوَ خيرًا وَأَعظَمَ أَجرًا).
«الجزيرة» التقت عدداً من المختصين في العلوم الشرعية والتربوية، ليتحدثوا حول الآلية المناسبة في كيفية تحقيق المنهج الإسلامي النبيل في المجتمع، ودور العلماء والدعاة في تعزيز ذلك.
مظاهر متعددة
يقول الأستاذ الدكتور محمد بن عبدالله الصواط أستاذ الدراسات العليا الشرعية بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى: لاشك أن من مقاصد الشريعة الإسلامية تحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع، ولذلك مظاهر متعددة، منها:
الزكوات: حيث فرض الله في المال قدراً معيناً يعطيه الأغنياء للفقراء سداً لحاجتهم ومواساة لهم.
الكفارات: والكفارات نوع من الواجبات المالية التي تعطى للفقراء مثل: كفارة الجماع في نهار رمضان، وكفارة اليمين، وكفارة الظهار وغيرها.
الأوقاف: ومن مقاصد الوقف الإنفاق على الموقوف عليهم، خاصة إذا كانت جهة بر، كالوقف على الفقراء والمساكين وطلاب العلم ونحوهم..
الوصايا: ولها دور في تحقيق التكافل الاجتماعي عبر الندب إلى الوصية للأقارب غير الوارثين، خصوصاً إذا كانوا فقراء.
صدقة التطوع: وهذه بابها واسع وقد نزلت إليها الشريعة في آيات وأحاديث كثيرة، وللعلماء دور مهم في هذا الأمر، وذلك بتوجيه الناس إلى بيان فضل الصدقات ومساعدة الآخرين، وتذكيرهم بالآيات والأحاديث في ذلك، وأن يكونوا قدوة عملية لهم في هذا الأمر.
وقد قامت الدولة الرشيدة بتيسير طريق للراغبين في التطوع المالي عبر منصة إحسان وغيرها من المنصات الموثوقة، فجزاهم الله خيراً وجعل ذلك في موازينهم.
التكافل الاجتماعي
ويبين الدكتور عبدالعزيز بن عبدالرحمن التويجري أستاذ الإدارة والتخطيط التربوي المشارك في جامعتي الملك سعود والمجمعة: أن تحقيق المنهج الإسلامي في التكافل الاجتماعي يقوم على ركنين:
أولهما: استحضار أن التكافل بين أفراد المجتمع المسلم من أفضل الأعمال الصالحة، وأعظمها أجرًا عند الله، وأعظمها أثرًا عند الناس؛ ذلك أنها من أنواع النفع المتعدي؛ الذي يصل نفعه إلى الآخرين ولا يقتصر على صاحبه.
وثانيهما: أن التكافل بين أفراد المجتمع المسلم ليس مجرد نفع للآخرين؛ بل هو نفع للنفس؛ إذ يعود على الشخص بالرضا النفسي، فضلاً عما وعد الله به من بذل للآخرين أن يرزقه من عاجل البشرى ما يسره في نفسه وفي أهله.
ولا شك أن للعلماء والدعاة الدور الأكبر في تحقيق التكافل بين أفراد المجتمع المسلم؛ بما أنعم الله عليهم من العلم والسيرة الصالحة؛ التي تؤهلهم لدعوة الناس إلى التكافل، وتعينهم على أن يكونوا قدوة لهم في ذلك، وهو من الميثاق الذي أخذه الله على العلماء أن يبينوا للناس دينهم؛ ومنه جانب التكافل الاجتماعي الذي حثت عليه الشريعة.
ويمكن في هذا الصدد الإشارة إلى صور من التكافل الاجتماعي؛ يمكن تطبيقها في المجتمع، وتختلف من بيئة إلى أخرى، ومن زمان ومكان إلى زمان ومكان آخر؛ منها: استثمار ما أتاحته الدولة -وفقها الله- عبر المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي من تأسيس الصناديق العائلية التي تنظم عمليات الإحسان بين الأقارب، وتقوية أواصر القربى، وتفقد الاحتياجات؛ في هذا الزمن الذي تعددت فيه وسائل التأثير، وتضاعفت أسباب التباعد المكاني بين الأقارب.
أواصر الأخوة
ويشير الدكتور طلال بن سليمان الدوسري أستاذ الفقه المقارن المشارك في جامعة القصيم: إلى أن الله سبحانه وتعالى جعل شرعه صالحاً مصلحاً لخلقه في جميع شؤونهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14]، وانظر كيف أن الشريعة بلغت في ذلك مبلغاً توصي معه الإنسان بأقرب الناس إليه والديه وأولاده في نحو قول الله سبحانه: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) [العنكبوت: 8]، وقوله سبحانه وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا? [الأحقاف: 15]، وقوله سبحانه، (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) [النساء: 11]، وفي المتفق عليه واللفظ للبخاري من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وفيه يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى ما تجعل في في امرأتك). والنصوص في هذا الباب كثيرة.
وإن من أوجه صلاح شؤون الناس الذي جاءت به الشريعة تقوية أواصر الأخوة بين المسلمين، يلحظ ذلك الناظر مقصداً بارزاً في كثير من الأحكام الشرعية.
في المتفق عليه واللفظ لمسلم من حديث زينب امرأة عبدالله بن مسعود -رضي الله عنهما-، قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تصدقن يا معشر النساء، ولو من حليكن)، قالت: فرجعت إلى عبدالله فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أمرنا بالصدقة، فائته فاسأله، فإن كان ذلك يجزي عني، وإلا صرفتها إلى غيركم، قالت: فقال لي: عبدالله بل ائتيه أنتِ، قالت: فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاجتي حاجتها قالت: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد ألقيت عليه المهابة، قالت: فخرج علينا بلال فقلنا له: ائت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره أن امرأتين بالباب تسألانك: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما، وعلى أيتام في حجورهما، ولا تخبره من نحن؟ قالت: فدخل بلال على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسأله فقال: له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هما؟ فقال امرأة من الأنصار وزينب، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الزيانب؟ قال: امرأة عبدالله، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لهما أجران، أجر القرابة، وأجر الصدقة). وفي حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- في القصة نفسها في صحيح البخاري، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم).
وفي المتفق عليه من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، قام أبو طلحة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إن الله تعالى يقول في كتابه: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله، حيث شئت فقال: (بخ، ذلك مال رائح، ذلك مال رائح، قد سمعت ما قلت فيها، وأرى أن تجعلها في الأقربين). قال: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
في المتفق عليه واللفظ لمسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). فانظر كيف أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- العلاقة بين المؤمنين مقام العلاقة بين أعضاء الجسد الواحد، وما تستدعيه تلك العلاقة بين أعضاء الجسد ينبغي أن تستدعيه علاقة الأخوة بين المسلمين.
هذا، وإن الحق يعظم إذا انضاف له مع حق الإسلام حقوق أخرى، كحق القرابة، أو حق الجوار، أو حق الفقير على الغني، أو هي معاً أو غيرها من الحقوق.
المتفق عليه واللفظ للبخاري من حديث عائشة -رضي الله عنها-: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما زال يوصيني جبريل بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)، وفي صحيح مسلم من حديث صحيح مسلم أبي ذر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك).
والأحاديث في الباب كثيرة وإنما المقصود الإشارة إلى بعضها بما يظهر عناية الشريعة بالتكافل بين أفراد المجتمع خاصة أولي القرابة والجوار.
فينبغي للمسلم أن يتلمس حاجات من حوله، وأن يجتهد في أن يصل بره وإحسانه لذوي الحاجة من أقاربه وجيرانه، خاصة المتعففين منهم الذي ربما منعهم تعففهم وحياؤهم من إظهار حاجتهم مع عظيم فقرهم وفاقتهم، {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (273) سورة البقرة، وليحمد الله سبحانه أن جعل يده يد المعطي مما آتاه الله لا يد الآخذ.