زكية إبراهيم الحجي
الحياة رحلة.. يسير الإنسان في دروبها المتعرجة خلال زمن يُقاسُ به سنين عمره.. سنوات تمر وأيام تمضي حاملة معها كل شيء الطفولة والعمر والصحة والفقد لبعض أحبتنا وجزءاً من مبادئنا وقيمنا وتقاليدنا.. هي رحلة عمر الإنسان في هذه الدنيا فيها من التناقضات مالا يُعد ولا يُحصى.. فرح وألم وحزن.. فشل ونجاح.. زواج وطلاق.. غربة وتَوَطُّن.. بِرٌّ وعقوق ومفاجآت متعددة تقابل الإنسان في حياته إلا أنها تختلف بحسب الظروف والمواقف ومع ذلك كله تبقى الحياة مدرسة نتعلم منها الدروس ونستفيد من تجاربها ونأخذ منها العبر ولا نملك سوى الاستمرار وفي قلوبنا أمل بأن يكون القادم أجمل.
ومن نافلة القول إنه مهما بلغ الإنسان من الوعي والحكمة في هذه الحياة يبقى غير قادر على التحكم في تفاصيل حياته بالكامل وحياة المحيطين به من أفراد عائلته وأبنائه خصوصاً إذا تقدم به العمر وعاش عزلةَ تفرُّق الأبناء والابتعاد عنه بسبب زواج أو سفر أو غيره مشاعر متباينة تنبثق من داخله دون إرادة مهما حاول الإمساك بزمام الأمور.
في الحياة لا شيء دائم فالأشخاص والمواقف وحتى المشاعر والعواطف قي حالة تغير ما يجعلنا نتجاهل صوت الغريزة الذي يخبرنا ربما هناك خطأ ما في مسيرة حياتنا وفي لحظة نشعر بالخذلان وخيبة الأمل ونميل إلى العزلة.. المواقف والأمثلة كثيرة ومختلفة لكن أصعب وأشد ألماً على الإنسان في حياته هو الانفصال الأسري وابتعاد الأبناء عن والديهم لفترات طويلة وقلة التواصل معهما مهما كان نوع الابتعاد.. وفي عالم مليء بقصص واقعية مؤلمة ويتخفى خلفها الشوق والحنين يروي لنا أحد الأثرياء قصته بعد كفاح مرير طوال مسيرته الحياتية.. قصته تكفي لأن تلقننا درساً في هذه الحياة.
يقول.. اليوم أقضي حياتي وحيداً عاجزاً مثقلاً بالآلام بعد أن بلغت من العمر عتياً.. رزقني الله بثلاثة شباب خلفوا عدداً من الأحفاد تربوا على أكتافي وتربعوا في حضني ومنحتهم كل ما يحتاجون إليه ولم أبخل عليهم حتى بالدفء العاطفي والحنان والتوجيه برفق لا التوبيخ والنقد الجارح.. واليوم معظمهم في المرحلة الجامعية ومنهم من أكملها ويتابع الرجل الثري قائلاً: وبعد أن أفنيت جُلَّ حياتي في تدليلهم وتعليمهم جميعاً آباءً وأمهات اختفى الأبناء والأحفاد وحل الصمت في أركان بيتي وأصبحت مسافة التواصل بيني وبينهم بعيدة وبعيدة جداً وأصدقكم القول: أحد أبنائي يتصل عليّ بمعدل مكالمة واحدة في الشهر ولم يبارك لي بشهر رمضان ومع ندرة اتصالاته لم يسألني إن كنتُ بحاجة لشيء كل ما هنالك أنه يقول في نهاية الاتصال (أبي هل أنت راضٍ عني) أما الابن الآخر فلا يقل عن أخيه.. اتصال سريع كل سنة ثم يُنهي الاتصال بقوله (أبي هل أنت راضٍ عني) ويتابع الرجل قائلاً: هذا حال أبنائي جميعاً وكأن جملة (أبي هل أنت راضٍ عني) بلسم يخفف عني مشاعر الألم أو مكافأة لي بعد أن أديت واجبي.. اليوم يا سادة لم يعد لي رفيق سوى نافذة غرفتي أُطيل الجلوس أمامها وأفرط شريط الذكرى بكم زفرة حرى وكم غصة ضاق بها جوفي انتهى كلام الرجل.. أما أنا فأقول: أب مكلوم قدم لأبنائه الإحسان وقابلوا جميله بالنسيان.