عبدالمحسن بن علي المطلق
من بقايا السنين التي انصرمت كوصل زينب يوماً، حين أومضت(1) فمضت دنيانا..
وقد كنت أظن بعض الجمل ك( تروح تجيني).. سجع يتردد في ذهن أحدنا هكذا، لكني تأكدت حين تلقيت ظهر يوم الخميس (12 /11/ 1444 هـ) خبر وفاة الغالي خالي (سلطان بن عبدالعزيز المطلق) وخالي وصديقي-..معاً-، أنها تنقدح كل ما لاح لها طارق، أو هي تنبعث وبصحبتها شجون مما لا يقدر أحدنا عن دفعها، لأنها تأتي بزخم المناسبة-الداعي- لتأخذ حقّها منّا ثالث ومثلّث، كذا يعبّر أحبّتنا ب(أم الدنيا).
أجل، فكم تروح وتجيني بعض من ذكريات تنتزعني مما سربت إثره في المدى.. وعلى أي (حال) أنا فيه انتزاعاً، لأن كل شيء ممكن أن يؤخّر سوى خبر الموت الذي للِهِ حكمة أن شرع لنا وهو أعلم بنا(2) بتعجيل الجنازة، كتأكيد أن كل شيء يمكنك تجليته، حتى لو كان في أعلى سطور صفحة مشاغلك، فما بعد مغادرة الحبيب وبالذات أن جمع مع القربة صُحبة من أمر مريج، تلفاه بين ليوان أثرة دموع معلّمة، وصولجان أثر من فراق بادٍ مثل الزبر.. مما يستحق بعيدها أن تفرغ فتفزع له نفسك في نشرٍ لآلام مواجعك على «الغياب..» ما تستبق منك كل مشاعر تنتابك في لحظات كدر أو أثقال هي بين يديك، ما لا تنظر لها حتى ولو بعين حمئة, مما ترمِ من دموع- ملتهبةً-، فالذات بالذات بهذه الظروف الحالكة تجدها هي من تتساءل:
أهذه التي أخذتنا من بعضنا، أشغلتنا لاحقتنا
.. دركة (كادت) بها أن تأكل الأخضر من أنفاسنا واليابس.. تعبير مجازيّ من الأسى على ما بلغته بنا حالنا، وأُحدد في جفاف عواطفنا، ونحن نجزم أن جلّ ذلكم مما ليس بمِلكنا الانصراف عنه، ولو لبرهة في تجوالٍ التمعّن بمآل ما نجمع، لتأتي تلكم نوازل (الفراق) فتفيق(3).. ما يغدو المرء على حرثه كالفطيم يبكي بخفاء، فيما ذاته حسرات من وراء ظهر تلك الدموع، أو نادباً ما أمّم شطره اشتغالاً بما خُلق له عما خلق لأجله، وهو - المسكين- إلا ويدرِ أن لن يتله مولاه ما كتبه له من رزق..لكن لو وعى.
وأن ما يسعى إليه حثيثاً إليه إلا وآتٍ، أي ولو لم يفعل، لأنه (لن تموت نفس حتى تستكمل أجلها ورزقها)، وهنا لاحظ «رزقها» لكنّا في غمرة- ولن أتمادى بالقول في سكرة- ذلك نمضي في غمار ذلك عمداً أحايين، كحال من لم يتبصّر يوماً أن ليس بالحياة ما يستحق بالفعل سوى ما أوجزه المشفق (ذكر الله وما والاه) صدق الصادق بنصحه والرحيم بأمّته صلى الله عليه وسلّم.
أعلم أنني أُخبر عن شيء مما تعلمون، وهذا إن كان عجيباً، فإن الأعجب (3) أننا لذاك مصدقون غير أننا لسنا إليه مسلّمين.
إنها إن هي إلا كـ سانحة نلتقط بها أنفاسنا، كوقت مستقطع -كما يقول الرياضيون- لنفق فيه، ثم ما نلبث أن نعود (الهوينا) على خجل لما أُترفنا فيه.. كالمتناسين أن/
الليلَ، فاعلم، والنهار كلاهما
أنفاسنا فيه (تُعدّ).. وتحسب
أو بما نخوض فيه ونلعب وقلّ ما نلفى متعتّب، وأحدنا لن تحنث إن أقسمت أنه أوّل من يقرّ- لك- أنه تارك ما جمع.. إيماناً للمآل الحتمي (الرجعى) للِهِ، بهذا أملت الآية وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى.. (94) سورة الأنعام، نعم فكلّ سيودع بمثواه الدنيوي لوحده، و ...وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ أي:
ما مكنَّاكم فيه مما تتباهون به من أموال في الدنيا، والذي أنفقتم لجمعه أعزّ ما تملكون ( العمر..)، والذي سنُسأل عما أبليناه به..
يرحل اليوم (الخال..) جسداً وقد ضمر حضوره كثيراً مؤخراً، بفعل داء سلّ جسده وأرهقه صعوداً بغية مطلب العافية، فلم يطل منها عدا نقير مما يُنشد بمعاضدة الطبّ وإن كان في حالاتٍ يقف عاجزاً، فلا يحيد المؤمن عن أن يرفع يديه لربّه سائلاً ومبتهلاً أن رحمتك -يا ربّ - أعظم من مشاعرنا إزاء من فقدنا.
نعم فقدته وإن كان ذاك منذ زمن لكن الآمال قبيل الرحيل تزداد فتحيل حتى المحال إلى آمال.. والتي هي الأخرى تتقطّع حتى يبلغ المرء يوماً قادماً عليه محتوماً.
رحمك ربي يا خالي وصديق دنيا كنت أنت أحد جوانب أُنسها بالذات لما كنت في منشط من صحتك.
و رحمك ربي إبان بسمات على عارضيك مصطحبات دُعابات, ورحمك ربي لزهو كان منك بادٍ.. يفترّ عن أفراح وللحياة انفتاح, ورحمك ربي تعداد ما نابك من الداء الذي كان يروح عليك ويغدو..
ورحمك ربي عدد رجاءنا أن تعود إلينا( كما كنت)، فلم نفز بشيء من ذلك إلا نزراً بالكاد يعدّ, ورحمك ربي أبا عبدالعزيز، إذ بالفعل لكم أنت (لدي) عزيز..، فهاك من تلكم المعزّة, بعض بثّ أستعيره من( ديك الجن):
لَوْ كانَ يَدري الميْتُ ماذا بَعْدَهُ
بالحيِّ حَلَّ بَكَى لهُ في قَبْرِهِ
غُصَصٌ تكادُ تغيظ مِنها نَفْسُهُ
وتكادُ تُخْرِجُ قَلْبَهُ مِنْ صَدْرِه
ولكم كان تأثير ذلكم عليّ.. من توجّعك
فـ..رحمك الله وجعل ما أصابك طهورا لك وأجر ومقام كُتب لك عند مولاك
إنا لله وإنا إليه راجعون
من ابن أختك (هيلة) رحمها الله وجمعنا بكما في عليين/
1) من ومَض، برَق، لمع لمعانًا خفيفًا وظهر ظهورًا متقطِّعًا
2) نعم فهو {أعْلَمُ بِكم إذْ أنْشَأكم مِنَ الأرْضِ..} (النجم 32)
3) هنا حضرتني مفارقة للشافعي/
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة
وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
لأن الأخيرة كمن يفعل الشيء الذي هو يعلم-سلفًا- أنه خطأ