د. تنيضب الفايدي
«ذات الجيش» من المواقع المهمّة في التاريخ الإسلامي، حيث ربطت بعدّة أحداث وموقعها بالمدينة المنورة، لذا ذكرها أكثر المؤرِّخين، قال الحموي في معجم البلدان (2/ 233): « الجَيش: بالفتح ثم السكون، ذات الجيش: جعلها بعضهم من العقيق بالمدينة، وقال بعضهم: أولات الجيش موضع قرب المدينة وهو واد بين ذي الحليفة وبرثان، وهو أحد منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وإحدى مراحله عند منصرفه من غزاة بني المصطلق، وهناك جيَّش رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابتغاء عقد عائشة، ونزلت آية التيمم. وقال المطري في كتابه التعريف بما أنست الهجرة من معالم دار الهجرة (ص 183): «وأما ذاتُ الجيش فنقبُ ثنيّة الحفيرة من طريق مكة والمدينة». يقول دكتور سليمان الرحيلي محقق كتاب المطري: « ذات الجيش تقع على طريق الحاج بين ذي الحليفة والمفرحات، ووصفها الهجري بأنها تقع بمحاذاة الحفيرة بالتصغير وهي ثنية تقع على يمين الطريق».
ويقول السمهودي في كتابه وفاء الوفا (1/ 287): «قوله (شرف ذات الجيش) قال ابن زبالة: ذات الجيش: نقب ثنية الحفيرة من طريق مكة والمدينة، وقال السمهودي: «ويؤيده قول ياقوت: ذات الجيش موضع بعقيق المدينة، أراد بقربه، أو لأن سيلها يدفع فيه، وقد رأيته يطلق ذلك على ما يدفع في العقيق وإن بعد عنه». وقال الحربي في المناسك (ص33): «ذات الجيش تبعد عن ذي الحليفة ستة أميال أي: حوالي 12 كيلاً. وما زالت تلك الثنية المرتفعة مشاهدة هناك يسلكها الطريق المعبد». ويقول البلادي في معجم المعالم الجغرافية (ص87): «هي تلعة كبيرة تسيل من ثنايا مفرحات، فتصب في العقيق - عقيق المدينة- من الغرب فوق ذي الحليفة».
ويقول الشنقيطي في الدر الثمين (ص250): «البيداء أرض واسعة يصعدها الذاهب إلى محرم المدينة إلى مكة، وهي مستوية وتقع غربي ذي الحليفة وهي بين ذي الحليفة وذات الجيش، وقد ذكر البيداء في الحديث النبوي (إن قوماً يغزون المدينة فإذا نزلوا بالبيداء بعث الله جبريل عليه السلام فيقول يا بيداء أبيديهم). وقد ورد ذكرها في حديث عائشة رضي الله عنها في سبب نزول آية التيمم أنها قالت: حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش..» وهذا يعني أن نهاية ذي الحليفة هي بداية البيداء وذات الجيش سهل فسيح بعد البيداء يشقه واد يسمى بهذا الاسم، وعن يمينه جبيلات حمر غير شاهقة غربي جسر تقاطع طريق جدة مع طريق مدينة الحجاج المتصل بطريق الهجرة السريع، وبعد الجسر مركز أمن، وبعده بمائة متر تقريباً يوجد الجسر القائم على وادي ذات الجيش الذي نزل به النبي صلى الله عليه وسلم في رجوعه من غزوة بني المصطلق التي كانت بالمريسيع قرب قديد على بعد ثلاث مراحل من مكة فأدركته صلاة الفجر ولا ماء عنده وقد تأخر عن الرحيل ليلاً ليصل إلى ذي الحليفة قبل طلوع الفجر بسبب فقد قلادة لعائشة رضي الله عنها فلما طلع الفجر ولا ماء جاء الصديق إلى عائشة رضي الله عنهما وجعل يضربها...»
أقول: ذات الجيش صحراء واسعة تدخل من ضمنها البيداء غرب ميقات أهل المدينة (مسجد الميقات) ويحدّها جنوباً حمراء الأسد، وشمالاً بعض الجبال ومنها جبل يطلق عليه جبل النوم، وذات الجيش يخترقها وادي الجيش وهي إحدى الحدود الواردة في حِمى المدينة المنورة، وذات الجيش إحدى المنازل التي بات بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند منصرفه من غزوة بني المصطلق، تلك الغزوة العظيمة التي تنزلت بها بعض سور القرآن الكريم مثل سورة النور وسورة المنافقون وآية التيمم ، وأحكام كثيرة متنوعة. وكانت هذه الغزوة -غزوة بني المصطلق أو غزوة المريسيع- مجالاً خصباً للدراسات العليا، سواءً (الماجستير أو الدكتوراه) ولا يزال المجال مفتوحاً؛ لأن بذات الجيش وقعت حادثة الإفك التي اتهمت فيها أم المؤمنين الطاهرة المطهرة عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما وتنزلت براءتها في سورة تتلى إلى يوم القيامة، وهي سورة النور، ففي حديث عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهن خرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي (نصيبي) فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب، فحُملْتُ في هودج، فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة، نزلنا منزلاً ثم نودي بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عِقدي من جزع ظَفَارٍ قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذي كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحَّلوا على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيه داع ولا مجيب، فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني ويعودون في طلبي، فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل من وراء الجيش، فلما رآني عرفني فاستيقظت باسترجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ رحلته فوطئ على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا في نحر الظهيرة، وافتقدني الناس حين نزلوا وماج القوم ذكري، فبينا الناس كذلك، إذ هجمت عليهم فخاضوا في حديثي فهلك من هلك ....إلخ. رواه البخاري برقم (3910)، وفي سياق غزوة بني المصطلق ذاتها وفي نفس الوقت التي فقدت عائشة عقدها نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحاببعد مسافة قصيرة. وعندما لحقت عائشة رضي الله عنها بهم ذكرت في رواية لها القصة السابقة وأضافت ...... فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم فتيمموا. متفق عليه. قال أسيد بن حضير: لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر ما أنتم إلا بركة لهم.
وقيل: نزلت الآية سنة سبع في رجوعه صلى الله عليه وسلم من عمرة القضاء أو غزوة الفتح وَقَالَ الدَّاوُدِيّ: كَانَتْ قِصَّة التَّيَمُّم فِي غَزَاة الْفَتْح, وَقَدْ رَوَى اِبْن أَبِي شَيْبَة مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَة التَّيَمُّم لَمْ أَدْرِ كَيْف أَصْنَع... الْحَدِيث. فَهَذَا يَدُلّ عَلَى تَأَخُّرِهَا عَنْ غَزْوَة بَنِي الْمُصْطَلِق لأَنَّ إِسْلام أَبِي هُرَيْرَة كَانَ فِي السَّنَة السَّابِعَة وَهِيَ بَعْدهَا بِلا خِلاف.
والبيداء التي ذكرتها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ما زالت بنفس الاسم، كما يرتب بعض المؤرِّخين تلك المسمّيات كما يلي: ذو الحليفة أي: المسجد الميقات (جزء من العقيق)، ثم البيداء، ثم ذات الجيش، وبعدها جبيلات مفرحات (ثنايا مفرحات).
وقد جاء ذكر (ذات الجيش) في أشعار المحبين، قال عروة بن أذينة:
لو يعلم الذئب بنوم كعب
إذاً لأَمْسَى عندَنا ذا ذَنْبِ
أضربه ولا يقول حسبي
لا بدَّ عند ضيعةٍ من ضرب
كاد الهوى يومَ ذاتِ الجيشِ يقتُلني
لمنزلٍ لم يَهِجْ للشَّوقِ من صَقبِ
وقال الشاعر:
لليلى بذات الجَيش دارٌ عرَفْتُها
وأُخرى بذاتِ البَينِ آياتُها سَطْرُ
وقَفتُ بِرَبْعَيْها فَعَيَّ جوابُها
فكِدْتُ وعَيْني دمعُها سَربٌ هَمْرُ
ألا أيها الركب المخبون هل لكم
بساكن أجزاع الحمى بعدنا خُبرُ
فقالوا طوينا ذاك ليلا فإن يكن
به بعض من تهوى فما شعَر السفرُ
كأنما مِلآنَ لم يتغيرا
وقد مر للدارين من بعدنا عصْر