نوف سليمان الفوزان
يُذكر أن المخترع السويدي والعالم الكيميائي ألفريد نوبل قام باختراع «الديناميت» لغرض حفر المناجم لكن ذلك تحول إلى سلاح مدمر استخدم في الحروب بين الدول كما بات مصدر تهديد لسلام البشرية فما كان منه إلا أن «أساء رعياً فسقى»، حيث قرر التبرع بمعظم ثروته لتمويل جوائز نوبل لدعم السلام، واليوم كأن التأريخ يعيد نفسه مع الأب الروحي لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي الدكتور جيفري هنتون الذي استقال من شركة قوقل معرباً عن ندمه بعد أن لعب دوراً كبيراً في تطوير أدوات الذكاء الاصطناعي ولقد ساعدت إسهاماته في تمهيد الطريق لإنشاء «روبوتات» المحادثة التوليدية، ليدق ناقوس الخطر محذراً من الـ ذكاء الاصطناعي وتفوقه على قدرات البشر، فقال مصرحاً إن التقدم المحرز في هذا المجال يحمل في طياته مخاطر عميقة على المجتمع الإنساني، وقد أثيرت مخاوف دولية بشأن الآثار المترتبة على نماذج اللغة الكبيرة وتوليد صور الذكاء الاصطناعي للتعليم والأمن «السيبراني» وخصوصية البيانات، حيث تم حظره مؤقتاً من قبل الحكومة الإيطالية، بسبب مخاوف بشأن أمن البيانات، كما حظرت الأنظمة المدرسية والجامعات العامة في جميع أنحاء العالم أحد مواقع روبوتات المحادثة في الذكاء الاصطناعي من شبكاتها المحلية بسبب مخاوف من إساءة استخدامها في التعليم، وخاصة الغش في المهام، كما حذَّر خبراء من خطورة استبدال الجهد البشري بأدوات الذكاء الاصطناعي التوليدية كونها تجتزئ أدواراً ووظائف للإنسان كالترجمة والتعليم والقانون والصحافة وغيرها من العلوم، وهنا يطرح السؤال نفسه هل هذا نذير بمخاطرَ محتملة لإبطال دَوْر بعض المعلمين وغيرهم من المهنيين التربويين، إذ إنه يمكن للطلاب التفاعل مع مدرس افتراضي وتلقي التعليمات والدعم دون الحاجة للمعلم البشري لتقمص تلك «الريبوتات» دوره كأدوات لتوليد اللغة المتطورة في حوار الطالب بشكل ذكي وحفظ أسئلته وما يدور حولها من نقاشات وحوارات وتفسيرات ومناظرات بحسب مستوى تفكيره، وهل تكفيه عناء البحث في حل الواجبات والإجابة عن الاستفسارات وهل تساعده في بحوثاته العلمية وتعد له ما يلزمه من الردود المطلوبة في غضون ثوانٍ معدودة؟
إن تطبيقات محادثة الذكاء الاصطناعي التوليدية لذلك لا يمكن أن تكون بديلاً عن معرفة الموضوع، نعم يمكنها تجميع المعلومات بسرعة، لكن لا تستطيع معرفة ما إذا كانت صحيحة أم لا! فهي تفتقر إلى القدرة على فهم وتفكيك تعاقيد اللغة والقيام بإجراء المحادثة البشرية والتفاعل الذي يلبي احتياجات الطالب. حيث يتم تدريبها ببساطة على توليد الكلمات بناءً على مدخلات معينة، وهذا لا يكفي ولا يرقى إلى مستوى القدرة التي يتمتع بها المعلم الحقيقي في التجاوب مع الطلبة في فهم المراد ومعرفة المقاصد الكامنة وراء هذه الكلمات اللغوية. وهذا يعني أن أي استجابة تولدها من المرجح أن تكون ضحلة تفتقر إلى عمق البصيرة التي تفتقر إليها تلك الأجهزة الرقمية، بالإضافة إلى احتمال التحيز في المحتوى التعليمي الذي تم إنشاؤه، حيث إن الخوارزميات متحيزة للبيانات التي يتم تدريبها عليها، ومن الممكن أن تعطي معلومات خاطئة أو غير دقيقة، فإذا سلّمنا بأن أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدية قد يكون لها تطبيقات لا نهاية لها على ما يبدو في التعليم، إلا أنها تبقى محدودة القدرات فلا يتحقق من خلالها ذلك الإتقان، بل الإبداع الذي يوفره المعلم البشري. ومعلوم أن الإبداع غير المحدود في الفكر والتخيل الناتج عن العقل البشري لا يمكن أن توازيه أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدية المبرمجة بالبيانات المحدودة بحسب قدرات المصمم ومحركات التخزين المبرمجة التي تم توفيرها بمساحات رقمية وإن كانت واسعة فهي محدودة، مما يعني أنها قد تفتقر إلى القدرة على إنتاج محتوى مبتكر أو خارج الصندوق. فهي أدوات غير مستقلة وتعبر عن الإنسان الذي قام بتدريبها وبرمجتها، لذا فهي تواصل غير مباشر بين الطالب وإنسان خلف هذه التقنية «مبرمج»، لا يمكن تسميته معلم لغياب التواصل المباشر الذي يحمل المشاعر التي تؤثّر في التعلم. لذا -وإن توقعنا أن أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدية قد تكون شيئا مهما في حال إدراجها في مواكبة التعليم- لكن لا يعدو الاستعانة بها لمجرد تطوير البيئة الداعمة للتعلم الذاتي وليس التعليم فالتعليم خاصية إنسانية وعلينا أن نعرف جيدا أن المعلمين يقومون بدور لا يمكن تجاهله كما أنهم يبذلون جهدا لا يقدر بثمن ولهذا فلا يمكن الاستغناء عنهم في عملية التعلم.
لكن بالإمكان أن نجعل هذه «الريبوتات» الذكية اصطناعيا مساعدا يستعان بها كأدوات للاستفادة في تنمية مهارات المتعلم. عند إدخال منتجات الذكاء الاصطناعي إلى الفصل الدراسي، مع توخي الحذر من اجل سلامة مسار الطالب في منهجه التعليمي من خطر الإعاقة التكنولوجية عن التحليل والتفكير النقدي ومهارة حل المشكلات وحمايته من تقوض النزاهة في عمله، وعلى هذا فإنه من المهم أن يقر باستخدامها كتقنية للمساعدة، وبهذا نكون قد أضفنا إلى باكورة المعلم ما يجعله استباقياً في هذا التقدم العلمي ورائدا في قيادة طلابه بتلك الوسائل التقنية في هذا الذكاء الاصطناعي، «لا أن تحل محله»، إذ إنه من الواضح تماماً أن هذه التقنية باتت جزءاً من البيئة التعليمية الناشئة، وعلى المعلم أن يتواكب معها بدءاً بتعليم نفسه ثم تعليم طلابه كيفية استثمار هذه التقنية الحديثة ليكونوا فاعلين في هذا الفضاء الجديد مع الحث على تطوير النزاهة البحثية للمساعدة في تعليم الطلاب التفكير بشكل مثمر في الذكاء الاصطناعي باستخدام أدواته بمسؤولية وجعلها جزءاً منتظماً من نشاطاتهم التعليمية كأداة للبحث وليست أداة للتفكير، وبإمكان المعلمين أيضاً الاستفادة من تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدية كمساعد شخصي في التدريس للعمل بشكل أسرع لتخطيط الدروس أو الحصول على موارد ذات جودة أفضل، والمساعدة في إدارة أعباء العمل الكبيرة، لذلك ينبغي أن يكون لدينا معلم باحث وليس مؤديًا يقود السفينة أمام أمواج التغير التكنولوجي، ليرسو بطلابه في مرافئ التقدم والإبداع.
** **
- باحثة دكتوراه في التربية