رقية نبيل
أعجبني تعليق واحدة من القراء على رواية مدام بوفاري، حيث قالت: إن الروايات التي أدمنت إيما على قراءتها في صباها، الروايات التي كانت تبالغ في تصوير العشاق والعاشقات الولهانات وترسم لهما ألوانًا مسكرة عذبة، هذه الروايات كانت هي البذرة الخبيثة التي شاركت في فسادها، حيث ظلت إيما طوال عمرها تحلم أن تتذوق هكذا رومانسية وهكذا عشق وهكذا خيال، فكان أن لم تقنع بحب الزواج الطاهر المقدس، وحينما عادت من رحلتها مع الرجل الذي صار عشيقها الأول وبعدما أسبغ لها كل كلمات الحب والعشق الزائف، لم ترتعد فرائص إيما، لم تخف أو يصحو لها ضميرٌ معذبًا، بل على العكس لقد شعرت بالانتشاء، بالسكر، بالإثارة والحماس، أشياء خبت وغابت عن عالمها منذ وقت طويل! تمامًا على النقيض من الروسية التي تشبهها آنّا كارنينا، فآنّا حاولت ألا تقع، وقاومت لأيام عديدة هذا الفخ المغري، وأنصتت لتحذيرات زوجها المبطنة وإن بنصف أذن، وحينما وقعت خرت على ركبتيها ذاهلة وصاحت في ألم عظيم «سامحني سامحني» وكأنها تبصر زوجها أمامها! لأنها لم تخطط للوقوع، لم تحلم به وترسمه خيالات كل ليلة كإيما.
ألا تشبه هذه الروايات شيئاً آخر؟ شيء موجود في وقتنا هذا بكثرة؟ شيء يلهب خيال الشابات الصغيرات ويرسم لهن صورة غير حقيقية وأبعد ما تكون عن الواقع لشريك المستقبل؟
نعم، المسلسلات والأفلام التلفازية، وبخاصة المسلسلات التركية وحتى الأمريكية، التي يُصور فيها الحبيب بطلًا مغوارًا ذا نفس مهذبة ومتسامحة لأبعد الحدود، وكذلك مسلسلات الواقع الزائفة وصور وستوريهات اليوتيوب والانستغرام والتيك توك، التي أنا وأنتم وكل من شاهدها على يقين تام بأنها مزيفة! وغير حقيقية ألبتة، وأن خلف عدسات الكاميرا التي تدور تصور ما يجري في بيوتهم ليل نهار هناك أمور كثيرة تُخفى ومشاعر لا تظهر وأحداث لا تُحكى، ورغم ذلك تجد الكثيرات والكثيرين لا يزالون يتأثرون بها! وتجد الواحدة منهن وقد جافاها الكرى تقارن بين شريك حياتها وهؤلاء المتلونين على الشاشات، كيف سامح وكيف تغاضى وكيف عفا وكيف يترك لها حريتها في فعل هذا الأمر وذاك! ولك أن تتخيل كم بيت فسد بسبب من هذا وكم سعادة نغصت وكم من شرارات أوقدت في البيوت المطمئنة حرائق!
تقول صاحبة التعليق: كم بوفارية تعيش بيننا اليوم هدمت بيتها من أجل مقارنة مع ممثل تركي أو أجنبي ما وسيم!
إن هذه «العروض المسرحية» تنسى أن قوام أي حياة هو المودة والرحمة والصبر والتغافل ثم على أثر كل هؤلاء يأتي الحب الحقيقي، نعم، الحب الصادق الذي لا يتلون ولا يتغير ولا يُمحى، هذه العروض تنسى أن الحياة لا تخلو من المنغصات والعثرات والمصائب، واحتمال أولئك بيقين برحمة الله هو ما يفضي -بإذن الله- إلى السعادة المرجوّة.