د.عبدالرحيم محمود جاموس
منذ ستة وخمسين عاما وأنا أتذكر تفاصيل هذا اليوم الحزين بكل ألم، لن تمحوه من نفسي السنين أبدا، إلا باستعادة فلسطين كاملة لشعبها وأهلها الشرعيين، الذين تعرضوا لأبشع صور العدوان من قتل وتهجير واحتلال واستعمار.
هكذا تحل ذكرى العدوان الحزيراني الغاشم، الذي قام به العدو الإسرائيلي حينها على ما تبقى من أرض فلسطين، وعلى الدول العربية المجاورة لفلسطين، في الخامس من حزيران لعام ألف وتسعمائة وسبع وستين، بكل ما تحمل في ثناياها من المرارة، التي تزداد مرارتها عاما بعد عام، لم أستطع أن أنسى ذلك اليوم الكئيب وما حمل لي ولشعبنا وأمتنا من نتائج كارثية، ما زلت أكتوي شخصياً بها، كما يكتوي بها كل أبناء الشعب الفلسطيني ومعهم الأمة العربية، وما زال العالم ومنظماته وعلى رأسها الأمم المتحدة، عاجزين عن إزالة تلك المرارات التي خلفها هذا العدوان الغاشم، وأكثر من ذلك ما ارتكبه بعدها من جرائم يندى لها جبين الإنسانية، فقد هجر من هجر، وقتل من قتل، واعتقل من اعتقل، وصادر ما صادر، من الفلسطينيين منذ ذاك اليوم المشؤوم وإلى الآن، ولا يجد هذا الكيان الفاشي العنصري الاستيطاني العقوبة الرادعة، فيستمر في غيه وتطرفه، وما زال يتغول في غيه ويرتكب جرائمه اليومية في مختلف المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، التي هي في عرف القانون الدولي الحديث والقديم لا يمكن توصيفها سوى أنها جرائم حرب كاملة الأركان، فكل ما أقدم عليه من تهجير أو تقتيل أو اعتقال أو مصادرة في حق الفلسطينيين وممتلكاتهم، واستيطان لأرضهم، كان وما زال وسيبقى مخالفاً لأبسط قواعد القانون الدولي ولمبادئ حقوق الإنسان.
اليوم يكون قد اكتمل عمر هذا العدوان ستة وخمسين عاماً من الإحتلال والمعاناة المستمرة والمتعددة الأشكال التي أذاقها للشعب الفلسطيني طيلة سنواته، وخلف هذا العدوان هزات ارتدادية طالت دول المنطقة، وما زالت تعاني من آثارها المدمرة، وكانت هي السبب الرئيس لما شهدته بعض الدول من تمزق واقتتال.
عند وقوع هذا العدوان كنت قد أنهيت الصف السابع أو ما يسمى الأول الإعدادي أو المتوسط بنجاح كالعادة، وكانت قد بدأت حينها العطلة الصيفية لتوها، ومع قرع طبول الحرب في تلك الفترة، كنت أعتقد أن العدو لن يقدر على الدول العربية إذا ما وقعت الحرب، وكان عندي ثقة كبيرة وأمل كبير بأن النصر سيكون حليفاً للعرب، وسوف تتحرر فلسطين المحتلة عام 1948م إذا ما وقعت هذه الحرب، وسننعم بالعودة إلى السهل الساحلي (السهل الغربي) وبشواطئ المتوسط التي حرم منها جيلي، وسنلتقي أقاربنا الذين فصلوا عنا في شفا عمر والناصرة وفي حيفا ويافا، كما سيجري الوصل بين الأهل في الضفة الغربية مع الأهل في قطاع غزة، كل هذه الأحلام للصبي أنا، كانت هي أحلام كل فلسطيني، بل كل عربي، حلم بتحرير فلسطين وعودة شعبها المهجر من اللاجئين الهائمين على وجوههم، ويحلمون بالعودة إلى الديار التي حملوا معهم مفاتيحها، في ليلة الخامس من حزيران المشؤوم، نمت مبكراً لأني كنت على موعد مع الوالدة «رحمها الله» لمرافقتها إلى كرم جميل لنا اسمه «الغرس»، يقع في شرق البلدة، مزروع بأشجار اللوز، والزيتون، والعنب، والتين، والبرقوق، والمشمش، والتفاح السكري، الذي كنت أعشقه، وكانت تباشير نضجه قد بدأت، ففي الصباح الباكر، أفطرت كوباً من الشاي وقطعة من الخبز المحمص، مع قطعة من الجبن النابلسي المالح، وانطلقت إلى جانب الوالدة، أسابق الريح للوصول إلى الغرس، حيث وصلنا بعد مسير نصف ساعة من انطلاقنا، وباشرت الوالدة بقطف أوراق العنب، لأنها قررت أن تحضر لنا ذلك اليوم غداء من ورق العنب المحشو بالرز وبالقليل من اللحم المفروم.
وأما أنا، فعهدت إلي الوالدة بإنتقاء بعض من الثمار التي قد نضجت، خصوصاً من التفاح السكري الفريد في نظري لغاية الآن، ولم تمر برهة من الزمن، وإذا بصوت مزلزل، يكسر صمت المكان والزمان، ويتردد صداه بين التلال والجبال، أدخل الهلع إلى نفسي، فتوجهت جرياً نحو الوالدة والتصقت بها، ونظرت إلى السماء وإذا بأربع طائرات تحلق في سماء المنطقة، كان الظن أنها طائرات عربية أردنية أو عراقية، لأنها كانت قادمة من الشرق، وكان تعليق الوالدة أن الحرب قد وقعت، وقالت «يما خلينا انروح انشوف إخوتك ونشوف إيش راح نعمل»، وقطعت مهمتها وزيارتها الأخيرة للغرس ومهمتي التي لم يكتمل سروري بها..!، وصلنا إلى البيت واجتمع الجيران، وبدأ الكبار يتحدثون، فهمت أن هذه الطائرات لم تكن عربية، وإنما كانت طائرات معتدية إسرائيلية من طراز ميراج فرنسية الصنع، كانت في مهمة قصف للمطارات الأردنية وكانت عائدة في طريقها إلى قواعدها وآثرت القيام بعملية اختراق للصوت لتدخل الهلع والرعب في نفوس المدنيين الآمنين من سكان المنطقة، هكذا عشت الساعات الأولى من صباح يوم الاثنين الخامس من حزيران للعام ألف وتسعمائة وسبع وستين، سأبقى أكرر الحديث عن ذلك اليوم المشؤوم، لأنه نكسة ما بعدها نكبة، إنها المرارة بعينها، والألم بعينه يتكرر ذكره كل عام، لن يمحوه من نفسي سوى زوال الاحتلال، والعودة للوطن الذي سلبنا، هذه هي ذكرى النكسة الحزيرانية، كما أراها كل عام وكل يوم يستمر فيه هذا الاحتلال البغيض، دون ان يردع وينتهي ويزول إلى غير رجعة، وأن يتمكن شعبنا من حق العودة إلى وطنه وأن يمارس حقه في تقرير المصير وبناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس، وتختفي كامل آثار النكسة والنكبة ونتائجهما معا، ويحل السلام في أرض السلام فلسطين.