اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
مما لا يختلف عليه اثنان أن قمة جدة أثبتت نجاحها وتفردت بمزايا تميزها عن غيرها من القمم السابقة، بفضل جهود المملكة وقيادتها الواعية، وما حظيت به القمة في ظل هذه القيادة من حسن الإعداد والتحضير، وما تهدف إليه القمة من إحداث التغيير والتطوير، وكل ما من شأنه إنقاذ الواقع العربي المتهالك الذي أنهكته الصراعات والخلافات وزجت به في مستنقع الخوف وسوء التصرف، وأردته في هاوية الفقر والتخلف.
ومما يرفع من سقف النجاح أن هذه القمة انعقدت في ظل ظروف صعبة وواقع حافل بالأزمات والصراعات الإقليمية والدولية، ناهيك عما يمر به الوطن العربي على وجه الخصوص من عدم الاستقرار والتشرذم بسبب الصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية.
وتوطئة لانعقاد القمة بذلت المملكة جهوداً جهيدة لإصلاح البيت العربي وترميمه من الداخل، كما عملت على نزع فتيل التوتر في المحيط الإقليمي من خلال إصلاح العلاقات مع دول الجوار بهدف تصفير المشاكل والتفرغ للبناء والتنمية في بيئة يسودها الأمن والسلم.
ومكان انعقاد القمة وزمانها أضفيا عليها أهمية كبيرة وجعلاها محل اهتمام الآخرين الذين يأملون منها أن تخرج بمخرجات مرضية، فالمملكة تحتل منزلة دينية وتتمتع بمركز اقتصادي وثقل سياسي وموقع قيادي، الأمر الذي جعلها تحظى بمكانة مرموقة على المستوى الإقليمي والدولي، نظراً لما تتمتع به من شراكات استراتيجية وعلاقات متوازنة وسياسات معتدلة مع جميع الدول، مما مكّنها من أن تكون عنصراً مهما ورقماً محسوباً في المعادلة الإقليمية والدولية.
ويمكن وصف قمة جدة بأنها قمة إثبات الوجود والسير نحو الهدف المنشود، حيث إن الاعتراف بالواقع هو المدخل إلى التعامل معه، وتحديد الهدف هو الخطوة الأولى للوصول إليه، انطلاقاً من حتمية التحكم في الخيارات وضبط المسارات والربط بين طرفي المعادلة بما يضمن النجاح في الحالة الأولى والثانية.
وقد أدركت قيادة المملكة ضرورة تطبيق هذه المعادلة على الواقع العربي بغية التكيف مع الموقف والتعامل معه بحكمة عن طريق تجاوز الماضي ومنع تداعياته، واستشراف المستقبل والانطلاق إليه عبر التآلف والتكاتف بين الدول العربية وتحديد خيارها ورسم مسارها مع عقد العزم على نبذ الصراعات والخلافات البينية التي أثقلت كاهل هذه الدول وأفقدتها أمنها ونموها وجلبت لها المتاعب والمصاعب.
والواقع أن المملكة ذلَّلت كافة الصعوبات في سبيل انعقاد القمة وأدارتها بما يحفظ لها هيبتها ويضعها في المكان الذي يليق بها ويجعلها في وضع يُمكّنها من تحمل مسؤولياتها تجاه التهديدات الأمنية والتحديات السياسية والتداخلات الخارجية التي تؤثر على العمل العربي المشترك، وتفتح المجال للقوة الأجنبية للتدخل في شؤون الدول العربية والمساس بأمنها وتأجيج الصراعات بينها وعرقلة مسارها التنموي وخيارها الحضاري.
وقد انعقدت قمة جدة برئاسة الأمير محمد بن سلمان بعد أن استوفت تحضيراتها واكتملت ملفاتها، متجلياً نجاحها فيما سبقها من استعدادات وتغلبت عليه من صعوبات وتخلّل انعقادها من نشاطات وطرأ عليها من مستجدات ونتج عنها من قرارات مع الأخذ في الاعتبار أن النتائج النهائية والتطلعات المستقبلية وترجمة الأقوال إلى أفعال مرهونة بالمستقبل ومن سار على الدرب وصل.
ومن هذا المنطلق أتت كلمة رئيس القمة الأمير محمد بن سلمان تكريساً للبيان الختامي أو ما يعرف بإعلان جدة، وما تضمنه من قرارات وتطرق إليه من ملفات، حيث تعتبر هذه الكلمة بمثابة خارطة طريق بالنسبة للأمة العربية التي أكد الأمير بلسان مقالها وواقع حالها أنها حريصة على أن يستتب الأمن ويسود السلام على المستويين الإقليمي والعالمي لضمان التفرغ للبناء والتنمية وتحقيق مصالح الدول العربية وصيانة حقوق شعوبها، بعيداً عن الزج بالمنطقة العربية في ميادين الصراعات وجعلها هدفاً للاستقطاب العالمي، وما يعنيه هذا الاستقطاب من فقدان الأمن وتعثر مسيرة التنمية وجعل الوطن العربي مسرحاً للتدخلات الخارجية والأطماع الاستعمارية.
وفيما يتعلق بالملفات والقضايا العربية فإن المملكة حريصة على ترميم العلاقات البينية المتضررة من أجل توحيد الصف وجمع الكلمة وتجنب الخلافات والنزاعات التي تُخيّم على المنطقة العربية وتعصف بدولها منذ عقود زمنية دون أن تعرف الشعوب أسبابها أو يكون لها يدٌ فيها.
ومن العوائق المعيقة التي تحول دون تحقيق ما تتطلع إليه الأمة العربية تلك المشكلة المتقادمة والمعضلة القائمة والحالة المتفاقمة التي تكمن في قضية فلسطين التي يتفق الجميع على محوريتها وأولويتها، وما آلت إليه من مآلات جعلتها أبعد ما تكون عن الحل بسبب الكيان المحتل.
ومن المعاضل المزعجة ذات المسارات المزدوجة وجود التنظيمات المستأجرة والجماعات المتناحرة التي باتت تُشكل دولة داخل دولة، كما هو الحال في كل من اليمن ولبنان وسوريا وليبيا والسودان التي انهارت قياداتها وفقدت مقومات سيادتها نتيجة للصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية التي يُنفذ أصحابها أجندتهم المتعددة بواسطة المليشيات الداخلية المتمردة.
وبالطبع فإن الدول التي هذا حالها يتأرجح بين الصعود والنزول مآلها على نحو يجعلها بمسيس الحاجة إلى اصلاح وضعها الداخلي والمسك بزمام الأمور لكي تخرج من دائرة الفشل، ويستقيم لها العمل، وتنهض من كبوتها وتستعيد سيادتها.
وبناءً على ما سبق فإنه مطلوب من هذه الدول أن تعلم علم اليقين أنها في غياب امتلاك الإرادة واستعادة السيادة لن تستطيع الوفاء بالتزاماتها تجاه شعوبها ومتطلبات أمنها واستقرارها بالشكل الذي يُمكّنها من احترام انتماءاتها والوفاء بتعهداتها، ويؤهلها للتعامل مع الداخل والخارج على أرضية صلبة ينطلق التعامل فيها من منطلقات تحركها الإرادة وتضبط حركتها لزوميات السيادة.
ومن يُلقي نظرة فاحصة على هذه الدول التي تعاني من تجاوزات ميليشياتها المتمردة يجد أن التدخل الأجنبي في شؤونها واحتلال أراضي بعضها هو الذي فسح المجال للعصابات الفاسدة والعناصر الدخيلة التي تحاول صرف نظر المواطن عن هويته الحقيقية ومرجعيته الوطنية وإبعاده عن انتماءاته الدينية والوطنية والقومية واستبدالها ببدائل مستوردة وأفكار وافدة.
وهذه التنظيمات المفسدة في الأرض التي تمردت على قياداتها وخرجت على إجماع مجتمعاتها، تقتضي المصلحة العامة تصحيح مسارها ودرء أخطارها باعتبار مواجهتها واستئصال شأفتها من الأمور الدينية والوطنية والأمنية التي لا تقبل المساومة ولا أنصاف الحلول من أجل إخضاع هذه التنظيمات للسلطة الشرعية وإعادتها إلى حاضنتها الشعبية والتخلص من فسادها وتمردها.
وفي الختام فإن الإسلام هو دين التسامح والتصالح والجنوح إلى السلم ورفض المبادرة بالحرب، وسياسة اتقاء الشر تمثل سياسة حكيمة للحيلولة دون اندلاع الحرب، ولكن هذا السلم وهذه السياسة في حاجة إلى قوة رادعة تحميهما وتدافع عنهما، ورغم وصف الحرب بالكريهة، لكن كثيراً ما يُكره الإنسان على فعل ما يكره.
وكما أن السيطرة على الداخل وفرض الإرادة على تنظيماته وميليشياته المتمردة والمتناحرة هو المدخل والمنطلق للمحافظة على الأمن الوطني والسلم المجتمعي، فإن الاستعداد والإعداد لردع القوى الخارجية وجعلها تجنح إلى السلم وتحسب حساب الخصم هو الذي يمنع وقوع الحرب، وقد قيل: من رام السلام فليتهيأ للحرب.